[ ثم دخلت سنة سبع وعشرين ]
ذكر ولاية عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر وفتح إفريقية
في هذه السنة عن خراج عمرو بن العاص مصر ، واستعمل عليه عزل ، وكان أخا عبد الله بن سعد بن أبي سرح عثمان من الرضاعة ، فتباغيا ، فكتب عبد الله إلى عثمان يقول : إن عمرا كسر على الخراج . وكتب عمرو يقول : إن عبد الله قد كسر على مكيدة الحرب . فعزل عثمان عمرا واستقدمه ، واستعمل بدله عبد الله على حرب مصر وخراجها ، فقدم عمرو مغضبا ، فدخل على عثمان وعليه جبة محشوة [ قطنا ] ، فقال له : ما حشو جبتك ؟ قال : عمرو . قال : قد علمت [ أن حشوها عمرو ] ولم أرد هذا ، [ إنما سألت أقطن هو أم غيره ؟ ] .
وكان عبد الله من جند مصر ، وكان قد عثمان بغزو إفريقية سنة خمس وعشرين ، وقال له أمره عثمان : إن فتح الله عليك فلك من الفيء خمس الخمس نفلا . وأمر عبد الله بن نافع بن عبد القيس ، وعبد الله بن نافع بن الحارث على جند ، وسرحهما [ إلى الأندلس ] ، وأمرهما بالاجتماع مع على صاحب عبد الله بن سعد إفريقية ، ثم يقيم [ ص: 463 ] عبد الله في عمله . فخرجوا حتى قطعوا أرض مصر ووطئوا أرض إفريقية ، وكانوا في جيش كثير عدتهم آلاف من شجعان المسلمين ، فصالحهم أهلها على مال يؤدونه ولم يقدموا على دخول إفريقية والتوغل فيها لكثرة أهلها .
ثم إن لما ولي أرسل إلى عبد الله بن سعد عثمان في غزو إفريقية ، والاستكثار من الجموع عليها وفتحها ، فاستشار عثمان من عنده من الصحابة ، فأشار أكثرهم بذلك ، فجهز إليه العساكر من المدينة ، وفيهم جماعة من أعيان الصحابة ، منهم وغيره ، فسار بهم عبد الله بن عباس إلى عبد الله بن سعد إفريقية . فلما وصلوا إلى برقة لقيهم فيمن معه من المسلمين ، وكانوا بها ، وساروا إلى عقبة بن نافع طرابلس الغرب فنهبوا من عندها من الروم . وسار نحو إفريقية وبث السرايا في كل ناحية ، وكان ملكهم اسمه جرجير ، وملكه من طرابلس إلى طنجة ، وكان هرقل ملك الروم قد ولاه إفريقية ، فهو يحمل إليه الخراج كل سنة . فلما بلغه خبر المسلمين تجهز وجمع العساكر وأهل البلاد ، فبلغ عسكره مائة ألف وعشرين ألف فارس ، والتقى هو والمسلمون بمكان بينه وبين مدينة سبيطلة يوم وليلة ، وهذه المدينة كانت ذلك الوقت دار الملك ، فأقاموا هناك يقتتلون كل يوم ، وراسله يدعوه إلى الإسلام أو الجزية ، فامتنع منهما وتكبر عن قبول أحدهما . عبد الله بن سعد
وانقطع خبر المسلمين عن عثمان ، فسير عبد الله بن الزبير في جماعة إليهم ليأتيه بأخبارهم ، فسار مجدا ووصل إليهم وأقام معهم ، ولما وصل كثر الصياح والتكبير في المسلمين ، فسأل جرجير عن الخبر فقيل قد أتاهم عسكر ، ففت ذلك في عضده . ورأى عبد الله بن الزبير قتال المسلمين كل يوم من بكرة إلى الظهر ، فإذا أذن الظهر عاد كل فريق إلى خيامه ، وشهد القتال من الغد فلم ير ابن أبي سرح معهم ، فسأل عنه ، فقيل إنه سمع منادي جرجير يقول : من قتل عبد الله بن سعد فله مائة ألف دينار وأزوجه ابنتي ، وهو يخاف ، فحضر عنده وقال له : تأمر مناديا ينادي : من أتاني برأس جرجير نفلته مائة ألف وزوجته ابنته واستعملته على بلاده . ففعل ذلك ، فصار جرجير يخاف أشد من عبد الله .
ثم إن عبد الله بن الزبير قال لعبد الله بن سعد : إن أمرنا يطول مع هؤلاء ، وهم في أمداد متصلة وبلاد هي لهم ، ونحن منقطعون عن المسلمين وبلادهم ، وقد رأيت أن نترك غدا جماعة صالحة من أبطال المسلمين في خيامهم متأهبين ، الروم في باقي العسكر إلى أن يضجروا ويملوا ، فإذا رجعوا إلى خيامهم ورجع المسلمون ركب من كان [ ص: 464 ] في الخيام من المسلمين ، ولم يشهدوا القتال وهم مستريحون ، ونقصدهم على غرة ، فلعل الله ينصرنا عليهم ، فأحضر جماعة من أعيان الصحابة واستشارهم فوافقوه على ذلك . ونقاتل نحن
فلما كان الغد فعل عبد الله ما اتفقوا عليه ، وأقام جميع شجعان المسلمين في خيامهم ، وخيولهم عندهم مسرجة ، ومضى الباقون فقاتلوا الروم إلى الظهر قتالا شديدا . فلما أذن بالظهر هم الروم بالانصراف على العادة ، فلم يمكنهم ابن الزبير وألح عليهم بالقتال حتى أتعبهم ، ثم عاد عنهم هو والمسلمون ، فكل من الطائفتين ألقى سلاحه ووقع تعبا ، فعند ذلك أخذ عبد الله بن الزبير من كان مستريحا من شجعان المسلمين ، وقصد الروم ، فلم يشعروا بهم حتى خالطوهم ، وحملوا حملة رجل واحد وكبروا ، فلم يتمكن الروم من لبس سلاحهم ، حتى غشيهم المسلمون وقتل جرجير ، قتله ابن الزبير ، وانهزم الروم ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، وأخذت ابنة الملك جرجير سبية . ونازل المدينة ، فحصرها حتى فتحها ، ورأى فيها من الأموال ما لم يكن في غيرها ، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار وسهم الراجل ألف دينار . عبد الله بن سعد
ولما فتح عبد الله مدينة سبيطلة بث جيوشه في البلاد فبلغت قفصة ، فسبوا وغنموا ، وسير عسكرا إلى حصن الأجم ، وقد احتمى به أهل تلك البلاد ، فحصره وفتحه بالأمان ، فصالحه أهل إفريقية على ألفي ألف وخمسمائة ألف دينار ، ونفل عبد الله بن الزبير ابنة الملك ، وأرسله إلى عثمان بالبشارة بفتح إفريقية ، وقيل : إن ابنة الملك وقعت لرجل من الأنصار فأركبها بعيرا وارتجز بها يقول :
يا ابنة جرجير تمشي عقبتك إن عليك بالحجاز ربتك لتحملن من قباء قربتك
ثم إن عاد من عبد الله بن سعد إفريقية إلى مصر ، وكان مقامه بإفريقية سنة وثلاثة أشهر ، ولم يفقد من المسلمين إلا ثلاثة نفر ، قتل منهم أبو ذؤيب الهذلي الشاعر فدفن هناك ، وحمل خمس إفريقية إلى المدينة ، فاشتراه بخمسمائة ألف دينار ، فوضعها عنه مروان بن الحكم عثمان ، وكان هذا مما أخذ عليه .
[ ص: 465 ] وهذا أحسن ما قيل في خمس إفريقية ، فإن بعض الناس يقول : أعطى عثمان خمس إفريقية ، وبعضهم يقول : أعطاه عبد الله بن سعد . وظهر بهذا أنه أعطى مروان بن الحكم عبد الله خمس الغزوة الأولى ، وأعطى مروان خمس الغزوة الثانية التي افتتحت فيها جميع إفريقية ، والله أعلم .
ذكر إفريقية وفتحها ثانية انتقاض
كان هرقل ملك القسطنطينية يؤدي إليه كل ملك من ملوك النصارى الخراج ، فهم من مصر وإفريقية والأندلس وغير ذلك ، فلما صالح أهل إفريقية أرسل عبد الله بن سعد هرقل إلى أهلها بطريقا له ، وأمره أن يأخذ منهم مثل ما أخذ المسلمون ، فنزل البطريق في قرطاجنة ، وجمع أهل إفريقية وأخبرهم بما أمره الملك ، فأبوا عليه ، وقالوا : نحن نؤدي ما كان يؤخذ منا ، وقد كان ينبغي له أن يسامحنا لما ناله المسلمون منا . وكان قد قام بأمر إفريقية بعد قتل جرجير رجل آخر من الروم ، فطرده البطريق . بعد فتن كثيرة ، فسار إلى الشام وبه معاوية وقد استقر له الأمر بعد قتل علي ، فوصف له إفريقية وطلب أن يرسل معه جيشا ، فسير معاوية بن أبي سفيان . فلما وصلوا إلى معاوية بن حديج السكوني الإسكندرية هلك الرومي ، ومضى ابن حديج فوصل إلى إفريقية وهي نار تضطرم ، وكان معه عسكر عظيم ، فنزل عند قمونية ، وأرسل البطريق إليه ثلاثين ألف مقاتل . فلما سمع بهم معاوية سير إليهم جيشا من المسلمين ، فقاتلوهم ، فانهزمت الروم ، وحصر حصن جلولاء ، فلم يقدر عليه ، فانهدم سور الحصن ، فملكه المسلمون وغنموا ما فيه ، وبث السرايا ، فسكن الناس وأطاعوا ، وعاد إلى مصر .
( حديج : بضم الحاء وفتح الدال المهملتين وآخره جيم ) .
ثم لم يزل أهل إفريقية من أطوع أهل البلدان وأسمعهم ، إلى زمان ، حتى دب إليهم هشام بن عبد الملك أهل العراق واستثاروهم ، فشقوا العصا ، وفرقوا بينهم إلى اليوم ، وكانوا يقولون : لا نخالف الأئمة بما تجني العمال . فقالوا لهم : إنما يعمل هؤلاء بأمر أولئك . فقالوا : حتى نخبرهم ، فخرج ميسرة في بضعة وعشرين رجلا ، فقدموا على هشام فلم يؤذن لهم ، فدخلوا على الأبرش فقالوا : أبلغ أمير المؤمنين أن أميرنا يغزو بنا [ ص: 466 ] وبجنده ، فإذا غنمنا نفلهم ، ويقول : هذا أخلص لجهادنا ، وإذا حاصرنا مدينة قدمنا وأخرهم ، ويقول : هذا ازدياد في الأجر ، ومثلنا كفى إخوانه ، ثم إنهم عمدوا إلى ماشيتنا ، فجعلونا يبقرون بطونها عن سخالها ، يطلبون الفراء البيض لأمير المؤمنين ، فيقتلون ألف شاة في جلد ، فاحتملنا ذلك ، ثم إنهم سامونا أن يأخذوا كل جميلة من بناتنا ، فقلنا : لم نجد هذا في كتاب ولا سنة ونحن المسلمون ، فأحببنا أن نعلم أعن رأي أمير المؤمنين هذا أم لا ؟ فطال عليهم المقام ونفدت نفقاتهم ، فكتبوا أسماءهم ودفعوها إلى وزرائه وقالوا : إن سأل عنا أمير المؤمنين فأخبروه . ثم رجعوا إلى إفريقية فخرجوا على عامل هشام ، فقتلوه واستولوا على إفريقية ، وبلغ الخبر هشاما ، فسأل عن النفر فعرف أسماءهم ، فإذا هم الذين صنعوا ذلك .
ذكر الأندلس غزوة
لما افتتحت إفريقية أمر عثمان عبد الله بن نافع بن الحصين وعبد الله بن نافع بن عبد القيس أن يسيرا إلى الأندلس ، فأتياها من قبل البحر ، وكتب عثمان إلى من انتدب معهما : أما بعد فإن القسطنطينية إنما تفتح من قبل الأندلس .
فخرجوا ومعهم البربر ، ففتح الله على المسلمين وزاد في سلطان المسلمين مثل إفريقية . ولما عزل عثمان عبد الله بن سعد عن إفريقية ترك في عمله عبد الله بن نافع بن عبد القيس ، فكان عليها ، ورجع عبد الله إلى مصر . وبعث عبد الله إلى عثمان مالا قد حشد فيه ، فدخل عمرو على عثمان فقال له : يا عمرو هل تعلم أن تلك اللقاح درت بعدك ؟ قال عمرو : إن فصالها قد هلكت .
ذكر عدة حوادث
حج بالناس هذه السنة عثمان . وفيها كان فتح إصطخر الثاني على يد . وفيها غزا عثمان بن أبي العاص معاوية بن أبي سفيان قنسرين .
[ ص: 467 ] [ الوفيات ]
وفيها مات أبو ذؤيب الهذلي الشاعر بمصر منصرفا من إفريقية ، وقيل : بل مات بطريق مكة في البادية ، وقيل : مات ببلاد الروم ، وكلهم قالوا : مات في خلافة عثمان .
وفيها مات أبو رمثة البلوي بإفريقية ، له صحبة .
وفيها حفصة بنت عمر بن الخطاب زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقيل : ماتت سنة إحدى وأربعين ، وقيل : سنة خمس وأربعين . ماتت