ثم دخلت سنة تسع وستين وأربعمائة .
ذكر أقسيس مصر وعوده عنها . حصر
في هذه السنة سار أقسيس من دمشق إلى مصر ، وحصرها ، وضيق على أهلها ، ولم يبق غير أن يملكها ، فاجتمع أهلها مع ابن الجوهري الواعظ في الجامع ، وبكوا وتضرعوا ودعوا ، فقبل الله دعاءهم ، فانهزم أقسيس من غير قتال ، وعاد على أقبح صورة بغير سبب ، فوصل إلى دمشق وقد تفرق أصحابه ، فرأى أهلها قد صانوا مخلفيه وأمواله ، فشكرهم ، ورفع عنهم الخراج تلك السنة .
وأتى البيت المقدس ، فرأى أهله قد قبحوا على أصحابه ومخلفيه ، وحصروهم في محراب داود ، عليه السلام ، فلما قارب البلد تحصن أهله منه وسبوه ، فقاتلهم ، ففتح البلاد عنوة ونهبه ، وقتل من أهله فأكثر حتى قتل من التجأ إلى المسجد الأقصى ، وكف عمن كان عند الصخرة وحدها .
هكذا يذكر الشاميون ( هذا الاسم ) أقسيس ، والصحيح أنه أتسز ، وهو اسم تركي ، وقد ذكر بعض مؤرخي الشام أن أتسز لما وصل إلى مصر جمع أمير الجيوش بدر العساكر ، واستمد العرب وغيرهم من أهل البلاد ، فاجتمع معه خلق كثير ، واقتتلوا ، فانهزم أتسز ، وقتل أكثر أصحابه ، وقتل أخ له ، وقطعت يد أخ آخر ، وعاد [ ص: 261 ] منهزما إلى الشام في نفر قليل من عسكره ، فوصل إلى الرملة ، ثم سار منها إلى دمشق .
وحكى لي من أثق به عن جماعة من فضلاء مصر : أن أتسز لما وصل إلى مصر ونزل بظاهر القاهرة أساء أصحابه السيرة في الناس ، وظلموهم ، وأخذوا أموالهم ، وفعلوا الأفاعيل القبيحة ، فأرسل رؤساء القرى ومقدموها إلى يشكون إليه ما نزل بهم ، فأعاد الجواب بأنه عاجز عن دفع هذا العدو ، فقالوا له : نحن نرسل إليك من عندنا من الرجال المقاتلة يكونون معك ، ومن ليس له سلاح تعطيه من عندك سلاحا ، وعسكر هذا العدو قد أمنوا ، وتفرقوا في البلاد ، فنثور بهم في ليلة واحدة ونقتلهم ، وتخرج أنت إليه فيمن اجتمع عندك من الرجال ، فلا يكون له بك قوة . فأجابهم إلى ذلك . الخليفة المستنصر بالله العلوي
وأرسلوا إليه الرجال ، وثاروا كلهم في ليلة واحدة بمن عندهم ، فأوقعوا بهم ، وقتلوهم عن آخرهم ، ولم يسلم منهم إلا من كان عنده في عسكره ، وخرج إليه العسكر الذي عند المستنصر بالقاهرة ، فلم يقدر على الثبات لهم ، فولى منهزما ، وعاد إلى الشام ، وكفي أهل مصر شره وظلمه .
ذكر عدة حوادث .
في هذه السنة ورد بغداذ حاجا وجلس في المدرسة النظامية يعظ الناس ، وفي رباط شيخ الشيوخ وجرى له مع الحنابلة فتن لأنه تكلم على مذهب أبو نصر ابن الأستاذ أبي القاسم القشيري الأشعري ، ونصره ، وكثر أتباعه والمتعصبون له ، وقصد خصومه من الحنابلة ، ومن تبعهم ، سوق المدرسة النظامية وقتلوا جماعة .
[ ص: 262 ] وكان من المتعصبين الشيخ أبو إسحاق ، وشيخ الشيوخ ، وغيرهما من الأعيان ، وجرت بين الطائفتين أمور عظيمة .
وفيها تزوج الأمير علي بن أبي منصور بن فرامرز بن علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه أرسلان خاتون بنت داود عمة السلطان ملكشاه التي كانت زوجة . القائم بأمر الله
وفيها كان بالجزيرة والعراق والشام وباء عظيم ، وموت كثير حتى بقي كثير [ من ] الغلات ليس لها من يعملها لكثرة الموت في الناس .
[ الوفيات ]
وفيها مات محمود بن مرداس ، صاحب حلب ، وملك بعده ابنه نصر ، فمدحه بقصيدة يقول فيها : ابن حيوس
ثمانية لم تفترق مذ جمعتها فلا افترقت ما ذب عن ناظر شعر ضميرك والتقوى وجودك والغنى
ولفظك والمعنى وعزمك والنصر وكان لمحمود بن نصر سجية
وغالب ظني أن سيخلفها نصر
فقال : والله لو قال سيضعفها نصر لأضعفتها له . وأمر له بما كان يعطيه أبوه ، وهو ألف دينار ، في طبق فضة .
[ ص: 263 ] وكان على بابه جماعة من الشعراء ، فقال بعضهم :
على بابك المعمور منا عصابة مفاليس فانظر في أمور المفاليس
وقد قنعت منك العصابة كلها بعشر الذي أعطيته لابن حيوس
وما بيننا هذا التقارب كله ، ولكن سعيد لا يقاس بمنحوس
فقال لو قال : بمثل الذي أعطيته ، لأعطيتهم ذلك ، وأمر لهم بمثل نصفه .
وفيها توفي أسبهدوست بن محمد بن الحسن أبو منصور الديلمي الشاعر ، وكان قد لقي ابن الحجاج ، وابن نباتة وغيرهما وكان يتشيع ، وتركه وقال في ذلك :
وإذا سئلت عن اعتقادي قلت : ما كانت عليه مذاهب الأبرار
وأقول : خير الناس بعد محمد صديقه وأنيسه في الغار
وفيها توفي رئيس العراقين أبو أحمد النهاوندي الذي كان عميد بغداذ ، والشريف أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي الحنبلي ، ورزق الله بن محمد بن أحمد بن علي أبو سعد الأنباري الخطيب ، الفقيه ، الحنفي ، سمع الحديث الكثير ، وكان ثقة حافظا ، ، توفي في رجب ، [ ص: 264 ] سقط من سطح وطاهر بن أحمد بن بابشاذ النحوي ، المصري جامع عمرو بن العاص بمصر فمات لوقته ، وعبد الله بن عمر بن أحمد المعروف بابن هزارمرد ، الصريفيني ، راوية أحاديث ، وهو آخر من رواها وكان ثقة ، صالحا ، ومن طريقه سمعناها . علي بن الجعد