[ ص: 268 ]   605 
ثم دخلت سنة خمس وستمائة 
ذكر ملك الكرج  أرجيش  وعودهم عنها  
في هذه السنة سارت الكرج  في جموعها إلى ولاية خلاط  ، وقصدوا مدينة أرجيش  ، فحصروها وملكوها عنوة ، ونهبوا جميع ما بها من الأموال والأمتعة وغيرها ، وأسروا وسبوا أهلها ، وأحرقوها ، وخربوها بالكلية ، ولم يبق بها من أهلها أحد ; فأصبحت خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس . 
وكان  نجم الدين أيوب  ، صاحب أرمينية  ، بمدينة خلاط  ، وعنده كثير من العساكر ، فلم يقدم على الكرج  لأسباب : منها كثرتهم ، وخوفه من أهل خلاط    ; لما كان أسلف إليهم من القتل والأذى خاف أن يخرج منها فلا يمكن من العود إليها ، فلما لم يخرج إلى قتال الكرج  ، عادوا إلى بلادهم سالمين لم يذعرهم ذاعر ، وهذا جميعه ، وإن كان عظيما شديدا على الإسلام وأهله ، فإنه يسير بالنسبة إلى ما كان مما نذكره سنة أربع عشرة إلى سنة سبع عشرة وستمائة . 
ذكر قتل  سنجر شاه  وملك ابنه  محمود   
في هذه السنة قتل  سنجر شاه بن غازي بن مودود بن زنكي بن آقسنقر  ، صاحب جزيرة ابن عمر  ، وهو ابن عم  نور الدين  ، صاحب الموصل  ، قتله ابنه  غازي     ; ولقد سلك ابنه في قتله طريقا عجيبا يدل على مكر ودهاء . 
وسبب ذلك أن  سنجر  كان سيئ السيرة مع الناس كلهم من الرعية والجند   [ ص: 269 ] والحريم والأولاد ، وبلغ من قبح فعله مع أولاده أنه سير ابنيه  محمودا  ومودودا إلى قلعة فرح  من بلد الزوزان  ، وأخرج ابنه هذا إلى دار بالمدينة أسكنه فيها ، ووكل به من يمنعه الخروج . 
وكانت الدار إلى جانب بستان لبعض الرعية ، فكان يدخل إليه منها الحيات ، والعقارب ، وغيرهما من الحيوان المؤذي ، ففي بعض الأيام اصطاد حية وسيرها في منديل إلى أبيه لعله يرق له ، فلم يعطف عليه ، فأعمل الحيلة حتى نزل من الدار التي كان بها واختفى ، ووضع إنسانا كان يخدمه ، فخرج من الجزيرة ، وقصد الموصل  ، وأظهر أنه  غازي بن سنجر  ، فلما سمع  نور الدين  بقربه منها أرسل نفقة ، وثيابا ، وخيلا ، وأمره بالعود ، وقال : إن أباك يتجنى لنا الذنوب التي لم نعملها ، ويقبح ذكرنا ، فإذا صرت عندنا جعل ذلك ذريعة للشناعات والبشاعات ، ونقع معه في صراع لا ينادى وليده ; فسار إلى الشام    . 
وأما  غازي بن سنجر  فإنه تسلق إلى دار أبيه ، واختفى عند بعض سراريه ، وعلم به أكثر من بالدار ، فسترت عليه بغضا لأبيه ، وتوقعا للخلاص منه لشدته عليهن ، فبقي كذلك ، وترك أبوه الطلب له ظنا منه أنه بالشام  فاتفق أن أباه ، في بعض الأيام ، شرب الخمر بظاهر البلد مع ندمائه ، فكان يقترح على المغنين أن يغنوا في الفراق وما شاكل ذلك ، ويبكي ، ويظهر في قوله قرب الأجل ، ودنو الموت ، وزوال ما هو فيه ، فلم يزل كذلك إلى آخر النهار ، وعاد إلى داره ، وسكر عند بعض حظاياه ، ففي الليل دخل الخلاء ; وكان ابنه عند تلك الحظية ، فدخل إليه داره فضربه بالسكين أربع عشرة ضربة ، ثم ذبحه ، وتركه ملقى ، ودخل الحمام ، وقعد يلعب مع الجواري ، فلو فتح باب الدار وأحضر الجند واستحلفهم لملك البلد ، لكنه أمن واطمأن ، ولم يشك في الملك . 
فاتفق أن بعض الخدم الصغار خرج إلى الباب وأعلم أستاذ دار  سنجر  الخبر ،   [ ص: 270 ] فأحضر أعيان الدولة وعرفهم ذلك ، وأغلق الأبواب على غازي ، واستحلف الناس  لمحمود بن سنجر شاه  ، وأرسل إليه فأحضره من فرح ومعه أخوه  مودود  ، فلما حلف الناس وسكنوا فتحوا باب الدار على غازي ، ودخلوا عليه ليأخذوه ، فمانعهم عن نفسه ، فقتلوه وألقوه على باب الدار ، فأكلت الكلاب بعض لحمه ، ثم دفن باقيه . 
ووصل  محمود  إلى البلد وملكه ، ولقب بمعز الدين ، لقب أبيه ، فلما استقر أخذ كثيرا من الجواري اللواتي لأبيه فغرقهن في دجلة    . 
ولقد حدثني صديق لنا أنه رأى بدجلة  في مقدار غلوة سهم سبع جوار مغرقات ، منهن ثلاث قد أحرقت وجوههن بالنار ، فلم أعلم سبب ذلك الحريق حتى حدثتني جارية اشتريتها بالموصل  من جواريه ، أن  محمودا  كان يأخذ الجارية فيجعل وجهها في النار ، فإذا أحترقت ألقاها في دجلة  ، وباع من لم يغرقه منهن ، فتفرق أهل تلك الدار أيدي سبا . 
وكان  سنجر شاه  قبيح السيرة ، ظالما ، غاشما ، كثير المخاتلة والمواربة ، والنظر في دقيق الأمور وجليلها ، لا يمتنع من قبيح يفعله مع رعيته وغيرهم ، من أخذ الأموال والأملاك ، والقتل ، والإهانة ، وسلك معهم طريقا وعرا من قطع الألسنة والأنوف والآذان ، وأما اللحى فإنه حلق منها ما لا يحصى ، وكان جل فكره في ظلم يفعله . 
وبلغ من شدة ظلمه أنه كان إذا استدعى إنسانا ليحسن إليه لا يصل إلا وقد قارب الموت من شدة الخوف ; واستعلى في أيامه السفهاء ، ونفقت سوق الأشرار والساعين بالناس ، فخرب البلد ، وتفرق أهله ، لا جرم سلط الله عليه أقرب الخلق إليه فقتله ، ثم قتل ولده غازي ، وبعد قليل قتل ولده  محمود  أخاه  مودودا  ، وجرى في داره من التحريق والتغريق والتفريق ما ذكرنا بعضه ، ولو رمنا شرح قبح سيرته لطال ، والله تعالى بالمرصاد لكل ظالم . 
 [ ص: 271 ]   [ الوفيات    ] 
في هذه السنة ، ثاني المحرم ، توفي  أبو الحسن ورام بن أبي فراس الزاهد  بالحلة السيفية ، وهو منها ، وكان صالحا . 
وفي صفر توفي الشيخ  مصدق بن شبيب النحوي  ، وهو من أهل واسط     . 
وفي شعبان توفي القاضي  محمد بن أحمد بن المنداي الواسطي  ، بها ، وكان كثير الرواية للحديث ، وله إسناد عال ، وهو آخر من حدث بمسند   أحمد بن حنبل  عن  ابن الحصين     . 
وفيها توفي القوام  أبو الفوارس نصر بن ناصر بن مكي المدائني  ، صاحب المخزن ببغداد  ، وكان أديبا ، فاضلا ، كامل المروءة ، يحب الأدب وأهله ، ويحب الشعر ، ويحسن الجوائز عليه ، ولما توفي ولي بعده  أبو الفتوح المبارك ابن الوزير عضد الدين أبي الفرج  بن رئيس الرؤساء ، وأكرم ، وأعلي محله ، فبقي متوليا إلى سابع ذي القعدة وعزل لعجزه . 
[ ذكر عدة حوادث   ] 
وفيها كانت زلزلة عظيمة بنيسابور  وخراسان  ، وكان أشدها بنيسابور  وخرج أهلها إلى الصحراء أياما حتى سكنت وعادوا إلى مساكنهم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					