[ ص: 415 ]   491 
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وأربعمائة 
ذكر ملك الفرنج  مدينة أنطاكية   كان ابتداء ظهور دولة الفرنج  ، واشتداد أمرهم ، وخروجهم إلى بلاد الإسلام ، واستيلائهم على بعضها ، سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ، فملكوا مدينة طليطلة  وغيرها من بلاد الأندلس  ، وقد تقدم ذكر ذلك . 
ثم قصدوا سنة أربع وثمانين وأربعمائة جزيرة صقلية  وملكوها ، وقد ذكرته أيضا ، وتطرقوا إلى أطراف إفريقية  ، فملكوا منها شيئا وأخذ منهم ، ثم ملكوا غيره على ما نراه . 
فلما كان سنة تسعين وأربعمائة خرجوا إلى بلاد الشام  ، وكان سبب خروجهم أن ملكهم  بردويل  جمع جمعا كثيرا من الفرنج  ، وكان نسيب  رجار الفرنجي  الذي ملك صقلية  ، فأرسل إلى  رجار  يقول له : قد جمعت جمعا كثيرا ، وأنا واصل إليك ، وسائر من عندك إلى إفريقية  أفتحها ، وأكون مجاورا لك . 
فجمع  رجار  أصحابه ، واستشار في ذلك ، وقالوا : وحق الإنجيل هذا جيد لنا ولهم ، وتصبح البلاد بلاد النصرانية . 
فرفع رجله وحبق حبقة عظيمة وقال : وحق ديني ، هذه خير من كلامكم ! قالوا : وكيف ذلك ؟ قال : إذا وصلوا إلي أحتاج إلى كلفة كثيرة ، ومراكب تحملهم إلى إفريقية  ، وعساكر من عندي أيضا ، فإن فتحوا البلاد كانت لهم ، وصارت المئونة لهم من صقلية  وينقطع عني ما يصل من المال من ثمن الغلات كل سنة ، وإن لم يفلحوا رجعوا إلى بلادي ، وتأذيت بهم ، ويقول  تميم     : غدرت بي ، ونقضت عهدي ، وتنقطع الوصلة والأسفار بيننا ، وبلاد إفريقية  باقية لنا ، متى وجدنا قوة أخذناها . 
 [ ص: 416 ] وأحضر رسوله ، وقال له : إذا عزمتم على جهاد المسلمين ، فأفضل ذلك فتح بيت المقدس  ، تخلصونه من أيديهم ويكون لكم الفخر ، وأما إفريقية  فبيني وبين أهلها أيمان وعهود . فتجهزوا ، وخرجوا إلى الشام    . وقيل : إن أصحاب مصر  من العلويين  ، لما رأوا قوة الدولة السلجوقية  ، وتمكنها واستيلاءها على بلاد الشام  إلى غزة  ، ولم يبق بينهم وبين مصر  ولاية أخرى تمنعهم ، ودخول  أقسيس  إلى مصر  وحصرها ؛ خافوا ، وأرسلوا إلى الفرنج  يدعونهم إلى الخروج إلى الشام  ليملكوه ، ويكونوا بينهم وبين المسلمين ، ( والله أعلم ) . 
فلما عزم الفرنج  على قصد الشام  ، وساروا إلى القسطنطينية  ليعبروا المجاز إلى بلاد المسلمين ، ويسيروا في البر ، فيكون أسهل عليهم ، فلما وصلوا إليها منعهم ملكالروم  من الاجتياز ببلاده ، وقال : لا أمكنكم من العبور إلى بلاد الإسلام حتى تحلفوا لي أنكم تسلمون إلي أنطاكية  ، وكان قصده [ أن ] يحثهم على الخروج إلى بلاد الإسلام ، ظنا منه أنهم أتراك لا يبقون منهم أحدا ، لما رأى من صرامتهم وملكهم البلاد . 
فأجابوه إلى ذلك ، وعبروا الخليج عند القسطنطينية  سنة تسعين [ وأربعمائة ] ، ووصلوا إلى بلاد  قليج أرسلان بن سليمان بن قتلمش  ، وهي قونية وغيرها ، فلما وصلوا إليها لقيهم  قليج أرسلان  في جموعه ، ومنعهم ، فقاتلوه فهزموه في رجب سنة تسعين وأربعمائة ، واجتازوا في بلاده إلى بلاد  ابن الأرمني  ، فسلكوها ، وخرجوا إلى أنطاكية  فحصروها . 
ولما سمع صاحبها  ياغي سيان  بتوجههم إليها ، خاف من النصارى  الذين بها ، فأخرج المسلمين من أهلها ، ليس معهم غيرهم ، وأمرهم بحفر الخندق ، ثم أخرج من الغد النصارى  لعمل الخندق أيضا ، ليس معهم مسلم ، فعملوا فيه إلى العصر ، فلما   [ ص: 417 ] أرادوا دخول البلد منعهم ، وقال لهم : أنطاكية  لكم تهبونها لي حتى أنظر ما يكون منا ومن الفرنج  ، فقالوا له : من يحفظ أبناءنا ونساءنا ؟ فقال : أنا أخلفكم فيهم ، فأمسكوا ، وأقاموا في عسكر الفرنج  ، فحصروها تسعة أشهر ، وظهر من شجاعة  ياغي سيان  ، وجودة رأيه ، وحزمه ، واحتياطه ما لم يشاهد من غيره ، فهلك أكثر الفرنج    ( موتا ، ولو بقوا على كثرتهم التي خرجوا فيها لطبقوا بلاد الإسلام ) ، وحفظ  ياغي سيان  أهل نصارى أنطاكية   الذين أخرجهم ، وكف الأيدي المتطرقة إليهم . 
فلما طال مقام الفرنج  على أنطاكية  راسلوا أحد المستحفظين للأبراج ، وهو  زراد يعرف بروزبة  ، وبذلوا له مالا وأقطاعا ، وكان يتولى حفظ برج يلي الوادي ، وهو مبني على شباك في الوادي ، فلما تقرر الأمر بينهم وبين هذا الملعون  الزراد  ، جاءوا إلى الشباك ففتحوه ، ودخلوا منه ، وصعد جماعة كثيرة بالجبال ، فلما زادت عدتهم على خمسمائة ضربوا البوق ، وذلك عند السحر ، وقد تعب الناس من كثرة السهر والحراسة ، فاستيقظ  ياغي سيان  ، فسأل عن الحال ، فقيل : إن هذا البوق من القلعة ، ولا شك أنها قد ملكت ، ولم يكن من القلعة ، وإنما كان من ذلك البرج ، فدخله الرعب ، وفتح باب البلد ، وخرج هاربا في ثلاثين غلاما على وجهه ، فجاء نائبه في حفظ البلد ، فسأل عنه ، فقيل إنه هرب ، فخرج من باب آخر هاربا ، وكان ذلك معونة للفرنج  ، ولو ثبت ساعة لهلكوا . 
ثم إن الفرنج  دخلوا البلد من الباب ، ونهبوه ، وقتلوا من فيه من المسلمين ، وذلك في جمادى الأولى . 
وأما  ياغي سيان  فإنه لما طلع عليه النهار رجع إليه عقله ، وكان كالولهان ، فرأى نفسه وقد قطع عدة فراسخ ، فقال لمن معه : أين أنا ؟ فقيل : على أربعة فراسخ من أنطاكية  ، فندم كيف خلص سالما ، ولم يقاتل حتى يزيلهم عن البلد أو يقتل ، وجعل يتلهف ، ويسترجع على ترك أهله وأولاده والمسلمين ، فلشدة ما لحقه سقط عن فرسه مغشيا عليه ، فلما سقط إلى الأرض أراد أصحابه أن يركبوه ، فلم يكن فيه مسكة [ فإنه   [ ص: 418 ] كان ] قد قارب الموت فتركوه وساروا عنه ، واجتاز به إنسان أرمني كان يقطع الحطب ، وهو بآخر رمق ، فقتله وأخذ رأسه وحمله إلى الفرنج  بأنطاكية    . 
وكان الفرنج  قد كاتبوا صاحب حلب ، ودمشق ، بأننا لا نقصد غير البلاد التي كانت بيد الروم  ، لا نطلب سواها ، مكرا منهم وخديعة ، حتى لا يساعدوا صاحب أنطاكية    . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					