ثم دخلت سنة ستين
في هذه السنة كانت غزوة مالك بن عبد الله سورية ودخول جنادة رودس وهدمه مدينتها في قول بعضهم .
( وفيها توفي ، وكان قد أخذ على وفد أهل معاوية بن أبي سفيان البصرة البيعة ليزيد ) .
ذكر
معاوية بن أبي سفيان خطب وفاة معاوية قبل مرضه وقال : إني كزرع مستحصد وقد طالت إمرتي عليكم حتى مللتكم ومللتموني وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقي ، ولن يأتيكم بعدي إلا من أنا خير منه ، كما أن من قبلي كان خيرا مني ، وقد قيل : ، اللهم إني قد أحببت لقاءك فأحبب لقائي وبارك لي فيه ! من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه
فلم يمض غير قليل حتى ابتدأ به مرضه ، فلما مرض المرض الذي مات فيه دعا ابنه يزيد فقال : يا بني إني قد كفيتك الشد والترحال ، ووطأت لك الأمور ، وذللت لك الأعداء ، وأخضعت لك رقاب العرب ، وجمعت لك ما لم يجمعه أحد ، فانظر أهل الحجاز فإنهم أصلك ، وأكرم من قدم عليك منهم ، وتعاهد من غاب ، وانظر أهل العراق :
[ ص: 120 ] فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملا فافعل ، فإن عزل عامل أيسر من أن يشهر عليك مائة ألف سيف ، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك ، فإن رابك من عدوك شيء فانتصر بهم ، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم ، فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم تغيرت أخلاقهم ، وإني لست أخاف عليك أن ينازعك في هذا الأمر إلا أربعة نفر من قريش : الحسين بن علي ، ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر ، فأما فإنه رجل قد وقذته العبادة ، فإذا لم يبق أحد غيره بايعك ، وأما ابن عمر الحسين بن علي فهو رجل خفيف ولن يتركه أهل العراق حتى يخرجوه ، فإن خرج وظفرت به فاصفح عنه ، فإن له رحما ماسة وحقا عظيما وقرابة من محمد - صلى الله عليه وسلم - وأما ابن أبي بكر فإن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثله ، ليس له همة إلا في النساء واللهو ، وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك مراوغة الثعلب فإن أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزبير ، فإن هو فعلها بك فظفرت به فقطعه إربا إربا ، واحقن دماء قومك ما استطعت .
هكذا في هذه الرواية ذكر ، وليس بصحيح ، فإن عبد الرحمن بن أبي بكر كان قد مات قبل عبد الرحمن بن أبي بكر معاوية .
وقيل : إن يزيد كان غائبا في مرض أبيه وموته ، وإن معاوية أحضر الضحاك بن قيس ومسلم بن عقبة المري فأمرهما أن يؤديا عنه هذه الرسالة إلى يزيد ابنه ، وهو الصحيح .
ثم مات بدمشق لهلال رجب ، وقيل للنصف منه ، وقيل لثمان بقين منه ، وكان ملكه تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وسبعة وعشرين يوما مذ اجتمع له الأمر وبايع له الحسن بن علي ، وقيل كان ملكه تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر ، وقيل وثلاثة أشهر إلا أياما ، وكان عمره خمسا وسبعين سنة ، وقيل ثلاثا وسبعين سنة .
وقيل توفي وهو ابن ثمان وسبعين سنة ، وقيل خمس وثمانين .
وقيل : ولما اشتدت علته وأرجف به قال لأهله : احشوا عيني إثمدا وادهنوا رأسي .
ففعلوا وبرقوا وجهه بالدهن ثم مهد له فجلس وأذن للناس ، فسلموا قياما ولم يجلس [ ص: 121 ] أحد ، فلما خرجوا عنه قالوا : هو أصح الناس .
فقال معاوية عند خروجهم من عنده :
وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع
إذا مت مات الجود وانقطع الندى من الناس إلا من قليل مصرد
وردت أكف السائلين وأمسكوا من الدين والدنيا بخلف مجدد
فقالت إحدى بناته : كلا يا أمير المؤمنين بل يدفع الله عنك .
فقال متمثلا بشعر الهذلي : وإذا المنية ، البيت .
وقال لأهله : اتقوا الله فإنه لا واقي لمن لا يتقي الله .
ثم قضى وأوصى أن يرد نصف ماله إلى بيت المال ، كأنه أراد أن يطيب له الباقي لأن عمر قاسم عماله ، وأنشد لما حضرته الوفاة :
إن تناقش يكن نقاشك يا ر ب عذابا لا طوق لي بالعذاب
أو تجاوز فأنت رب صفوح عن مسيء ذنوبه كالتراب
لقد سعيت لكم من سعي ذي نصب وقد كفيتكم التطواف والرحلا
فهل من خالد إن ما هلكنا وهل بالموت يا للناس عار ؟
وكان في مرضه ربما اختلط في بعض الأوقات ، فقال مرة : كم بيننا وبين الغوطة ؟ فصاحت بنته : واحزناه ! فأفاق فقال : إن تنفري فقد رأيت منفرا .
فلما مات خرج حتى صعد المنبر وأكفان الضحاك بن قيس معاوية على يديه ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن معاوية كان عود العرب وحد العرب وجد العرب ، قطع الله به الفتنة وملكه على العباد وفتح به البلاد ، إلا أنه قد مات وهذه أكفانه ونحن مدرجوه فيها ومدخلوه قبره ومخلون بينه وبين عمله ثم هو الهرج إلى يوم القيامة ، فمن كان يريد [ أن ] يشهده فعند الأولى .
وصلى عليه الضحاك .
[ ص: 123 ] وقيل : لما اشتد مرضه ، أي مرض معاوية ، كان ولده يزيد بحوارين ، فكتبوا إليه يحثونه على المجيء ليدركه ، فقال يزيد شعرا :
جاء البريد بقرطاس يخب به
فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
قلنا : لك الويل ماذا في كتابكم ؟
قال : الخليفة أمسى مثبتا وجعا ثم انبعثنا إلى خوض مزممة
نرمي الفجاج بها لا نأتلي سرعا فمادت الأرض أو كادت تميد بنا
كأن أغبر من أركانها انقطعا من لم تزل نفسه توفي على شرف
توشك مقاليد تلك النفس أن تقعا لما انتهينا وباب الدار منصفق
وصوت رملة ريع القلب فانصدعا ثم ارعوى القلب شيئا بعد طيرته
والنفس تعلم أن قد أثبتت جزعا أودى ابن هند وأودى المجد يتبعه
كانا جميعا فماتا قاطنين معا
أغر أبلج يستسقى الغمام به
لو قارع الناس عن أحسابهم قرعا
[ ص: 124 ] فأقبل يزيد وقد دفن فأتى قبره فصلى عليه .