ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائتين
ذكر المقتدر وولاية ابن المعتز خلع
وفي هذه السنة اجتمع القواد ، والقضاة ، والكتاب ، مع الوزير العباس بن الحسن ، على خلع المقتدر ، والبيعة لابن المعتز ، ( وأرسلوا إلى ابن المعتز ) في ذلك ، فأجابهم على أن لا يكون فيه سفك دم ، ولا حرب ، فأخبروه باجتماعهم عليه ، وأنهم ليس لهم منازع ولا محارب .
وكان الرأس في ذلك العباس بن الحسن ، ومحمد بن داود بن الجراح ، وأبو المثنى أحمد بن يعقوب القاضي ، ومن القواد الحسين بن حمدان ، وبدر الأعجمي ، ووصيف بن صوارتكين .
ثم إن الوزير رأى أمره صالحا مع المقتدر ، وأنه على ما يحب ، فبدا له في ذلك ، فوثب به الآخرون فقتلوه ، وكان الذي تولى قتله منهم الحسين بن حمدان ، وبدر الأعجمي ، ووصيف ، ولحقوه ، وهو سائر إلى بستان له ، فقتلوه في طريقه ، وقتلوا معه فاتكا المعتضدي ، وذلك في العشرين من ربيع الأول ، وخلع المقتدر من الغد ، وبايع الناس لابن المعتز .
وركض الحسين بن حمدان إلى الحلبة ظنا منه أن المقتدر يلعب هناك بالكرة ، فيقتله ، فلم يصادفه ، لأنه كان هناك ، فبلغه قتل الوزير وفاتك ، فركض دابته فدخل الدار ، وغلقت الأبواب ، فندم الحسين حيث لم يبدأ بالمقتدر .
[ ص: 570 ] وأحضروا ابن المعتز وبايعوه بالخلافة ، وكان الذي يتولى أخذ البيعة له محمد بن سعيد الأزرق ، وحضر الناس ، والقواد ، وأصحاب الدواوين ، سوى أبي الحسن بن الفرات ، وخواص المقتدر ، فإنهم لم يحضروا .
ولقب ابن المعتز المرتضي بالله ، واستوزر محمد بن داود الجراح ، وقلد علي بن عيسى الدواوين ، وكتبت الكتب إلى البلاد من أمير المؤمنين المرتضي بالله أبي العباس عبد الله بن المعتز بالله ، ووجه إلى المقتدر يأمره بالانتقال إلى دار ابن طاهر التي كان مقيما فيها ، لينتقل هو إلى دار الخلافة ، فأجابه بالسمع والطاعة ، وسأل الإمهال إلى الليل .
وعاد الحسين بن حمدان بكرة غد إلى دار الخلافة ، فقاتله الخدم والغلمان والرجالة من وراء الستور عامة النهار ، فانصرف عنهم آخر النهار ، فلما جنه الليل سار عن بغداذ بأهله وماله وكل ما له إلى الموصل ، لا يدري لم فعل ذلك ، ولم يكن بقي مع المقتدر من القواد غير ، مؤنس الخادم ومؤنس الخازن ، وغريب الخال وحاشية الدار .
فلما هم المقتدر بالانتقال عن الدار قال بعضهم لبعض : لا نسلم الخلافة من غير أن نبلي عذرا ، ونجتهد في دفع ما أصابنا ، فأجمع رأيهم على أن يصعدوا في الماء إلى الدار التي فيها ابن المعتز بالحرم يقاتلونه ، فأخرج لهم المقتدر السلاح والزرديات وغير ذلك ، وركبوا السميريات ، وأصعدوا في الماء ، فلما رآهم من عند ابن المعتز هالهم كثرتهم ، واضطربوا وهربوا على وجوههم من قبل أن يصلوا إليهم ، وقال بعضهم لبعض : إن الحسن بن حمدان عرف ما يريد أن يجري فهرب من الليل ، وهذه مواطأة بينه وبين المقتدر ، وهذا كان سبب هربه .
[ ص: 571 ] ولما رأى ابن المعتز ذلك ركب ومعه وزيره وهربا ، وغلام له ينادي بين يديه : يا معشر العامة ، ادعوا لخليفتكم السني البربهاري ، وإنما نسبت هذه النسبة لأن محمد بن داود الحسين بن القاسم بن عبيد الله البربهاري كان مقدم الحنابلة والسنة من العامة ، ولهم فيها اعتقاد عظيم ، فأراد استمالتهم بهذا القول .
ثم إن ابن المعتز ومن معه ساروا نحو الصحراء ، ظنا منهم أن من بايعه من الجند يتبعونه ، فلم يلحقه منهم أحد ، فكانوا عزموا أن يسيروا إلى سر من رأى بمن يتبعهم من الجند ، فيشتد سلطانهم ، فلما رأوا أنهم لم يأتهم أحد رجعوا عن ذلك الرأي ، واختفى ( في داره ) ونزل محمد بن داود ابن المعتز عن ( دابته ) ومعه غلامه يمن ، وانحدر إلى دار أبي عبد الله بن الجصاص ، فاستجار به ، واستتر أكثر من بايع ابن المعتز ، ووقعت الفتنة والنهب والقتل ببغداذ ، وثار العيارون والسفل ينهبون الدور .
وكان ابن عمرويه ، صاحب الشرطة ، ممن بايع ابن المعتز ، فلما هرب جمع ابن عمرويه أصحابه ، ونادى بشعار المقتدر ، يدلس بذلك فناداه العامة : يا مرائي ، يا كذاب ! وقاتلوه ، فهرب واستتر ، وتفرق أصحابه ، فهجاه يحيى بن علي بأبيات منها :
بايعوه فلم يكن عند الأن وك إلا التغيير والتخبيط
[ ص: 572 ] رافضيون بايعوا أنصب الأ
مة هذا لعمري التخليط ثم ولى من زعقة ومحامو
ه ومن خلفهم لهم تضريط
وقلد المقتدر ، تلك الساعة ، الشرطة ، وهو غير مؤنسا الخازن ، وخرج بالعسكر ، وقبض على مؤنس الخادم وصيف بن صوارتكين وغيره ، فقتلهم ، وقبض على القاضي أبي عمر ، وعلي بن عيسى ، والقاضي محمد بن خلف وكيع ، ثم أطلقهم ، وقبض على القاضي المثنى أحمد بن يعقوب ، فقتله لأنه قيل له : بايع المقتدر ، فقال : لا أبايع صبيا ، فذبح .
وأرسل المقتدر إلى أبي الحسن بن الفرات ، وكان مختفيا ، فأحضره ، واستوزره ، وخلع عليه .
وكان في هذه الحادثة عجائب منها : أن الناس كلهم أجمعوا على خلع المقتدر والبيعة لابن المعتز ، فلم يتم ذلك ، بل كان على العكس من إرادتهم ، وكان أمر الله مفعولا .
ومنها أن ابن حمدان ، على شدة تشيعه وميله إلى علي ، عليه السلام ، وأهل بيته ، يسعى في البيعة لابن المعتز على انحرافه عن علي وغلوه في النصب إلى غير ذلك .
ثم إن خادما لابن الجصاص ، يعرف بسوسن ، أخبر صافيا الحرمي بأن ابن المعتز عند مولاه ، ومعه جماعة ، فكبست دار ابن الجصاص ، وأخذ ابن المعتز منها ، وحبس إلى الليل ، وعصرت خصيتاه حتى مات ، ولف في كساء ، وسلم إلى أهله .
وصودر ابن الجصاص على مال كثير ، وأخذ وزير محمد بن داود ابن المعتز ، وكان
[ ص: 573 ] مستترا ، فقتل ، ونفي علي بن عيسى إلى واسط ، فأرسل إلى الوزير ابن الفرات يطلب منه أن يأذن له في المسير إلى مكة ، فأذن له في ذلك فسار إليها على طريق البصرة وأقام بها .
وصودر القاضي أبو عمر على مائة ألف دينار ، وسيرت العساكر من بغداذ في طلب الحسين بن حمدان فتبعوه إلى الموصل ، ثم إلى بلد فلم يظفروا به فعادوا إلى بغداذ ( فكتب الوزير إلى أخيه أبي الهيجاء بن حمدان ، وهو الأمير على الموصل ، يأمره بطلبه ، فسار إليه إلى بلد ، ففارقها الحسين إلى سنجار وأخوه في أثره ، فدخل البرية فتبعه أخوه عشرة أيام ، فأدركه فاقتتلوا فظفر أبو الهيجاء ، وأسر بعض أصحابه ، وأخذ منه عشرة آلاف دينار ، وعاد عنه إلى الموصل ، ثم انحدر إلى بغداذ ، فلما كان فوق تكريت أدركه أخوه الحسين ، فبيته ، فقتل منهم قتلى ، وانحدر أبو الهيجاء إلى بغداذ .
وأرسل الحسين إلى ابن الفرات ، وزير المقتدر ، يسأله الرضى عنه ، فشفع فيه إلى المقتدر بالله ليرضى عنه ، وعن ) إبراهيم بن كيغلغ ، وابن عمرويه صاحب الشرطة وغيرهم ، ( فرضي عنهم ، ودخل الحسين بغداذ ، فرد عليه أخوه ما أخذ منه ، وأقام الحسين ببغداذ إلى أن ولي قم فسار إليها ) ، وأخذ الجرائد التي فيها أسماء من أعان على المقتدر ، فغرقها في دجلة .
وبسط ابن الفرات العدل والإحسان وأخرج الإدرارات للعباسيين والطالبيين ، وأرضى القواد بالأموال ، ففرق معظم ما كان في بيوت الأموال .