[ ص: 5 ] بسم الله الرحمن الرحيم 41 
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين : 
ذكر تسليم  الحسن بن علي  الخلافة إلى  معاوية  
 كان أمير المؤمنين  علي  قد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام  ، فبينما هو يتجهز للمسير قتل ، عليه السلام ، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له . فلما قتل وبايع الناس ولده  الحسن  بلغه مسير  معاوية  في أهل الشام  إليه ، فتجهز هو والجيش الذي كانوا بايعوا  عليا  وسار عن الكوفة  إلى لقاء  معاوية  ، وكان قد نزل مسكن  ، فوصل  الحسن  إلى المدائن  ، وجعل   قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري  على مقدمته في اثني عشر ألفا ، ( وقيل بل كان  الحسن  قد جعل على مقدمته   عبد الله بن عباس  ، فجعل  عبد الله  على مقدمته في الطلائع   قيس بن سعد بن عبادة     ) . فلما نزل  الحسن  المدائن  نادى مناد في العسكر : ألا إن   قيس بن سعد  قتل فانفروا . فنفروا بسرادق  الحسن  ، فنهبوا متاعه حتى نازعوه بساطا كان تحته ، فازداد لهم بغضا ومنهم ذعرا ، ودخل المقصورة البيضاء بالمدائن  ، وكان الأمير على المدائن  سعد بن مسعود الثقفي عم المختار بن أبي عبيد  ، فقال له  المختار  ، وهو شاب : هل لك في الغنى والشرف ؟ قال : وما ذاك ؟ قال : تستوثق من  الحسن  وتستأمن به إلى  معاوية     : 
فقال له عمه : عليك لعنة الله ! أثب على ابن بنت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وأوثقه ؟ بئس الرجل أنت ! 
فلما رأى  الحسن  تفرق الأمر عنه كتب إلى  معاوية  وذكر شروطا وقال له : إن أنت أعطيتني هذا فأنا سامع مطيع وعليك أن تفي لي به . وقال لأخيه  الحسين   وعبد الله بن جعفر     : 
 [ ص: 6 ] إنني قد راسلت  معاوية  في الصلح : 
فقال له  الحسين     : 
( أنشدك الله أن تصدق أحدوثة  معاوية  وتكذب أحدوثة أبيك ! فقال له  الحسن     ) : اسكت ، أنا أعلم بالأمر منك . 
فلما انتهى كتاب  الحسن  إلى  معاوية  أمسكه ، وكان قد أرسل   عبد الله بن عامر   وعبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس  إلى  الحسن  قبل وصول الكتاب ومعهما صحيفة بيضاء مختوم على أسفلها ، وكتب إليه : أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت فهو لك . 
فلما أتت الصحيفة إلى  الحسن  اشترط أضعاف الشروط التي سأل  معاوية  قبل ذلك وأمسكها عنده ، فلما سلم  الحسن  الأمر إلى  معاوية  طلب أن يعطيه الشروط التي في الصحيفة التي ختم عليها  معاوية  ، فأبى ذلك  معاوية  وقال له : قد أعطيتك ما كنت تطلب . 
فلما اصطلحا قام  الحسن  في أهل العراق  فقال : يا أهل العراق  إنه سخي بنفسي عنكم ثلاث : قتلكم أبي ، وطعنكم إياي ، وانتهابكم متاعي . 
وكان الذي طلب  الحسن  من  معاوية  أن يعطيه ما في بيت مال الكوفة  ، ومبلغه خمسة آلاف ألف ، وخراج دارابجرد من فارس  ، وأن لا يشتم  عليا  ، فلم يجبه عن الكف عن شتم  علي  ، فطلب أن لا يشتم وهو يسمع ، فأجابه إلى ذلك ثم لم يف له به أيضا ، وأما خراج دارابجرد فإن أهل البصرة  منعوه منه وقالوا : هو فيئنا لا نعطيه أحدا ، وكان منعهم بأمر  معاوية  أيضا . 
وتسلم  معاوية  الأمر لخمس بقين من ربيع الأول من هذه السنة ، وقيل : في ربيع الآخر ، وقيل : في جمادى الأولى ، وقيل : إنما سلم  الحسن  الأمر إلى  معاوية  لأنه لما راسله  معاوية  في تسليم الخلافة إليه خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال :   [ ص: 7 ] إنا والله ما يثنينا عن أهل الشام  شك ولا ندم ، وإنما كنا نقاتل أهل الشام  بالسلامة والصبر ، فشيبت السلامة بالعداوة ، والصبر بالجزع ، وكنتم في مسيركم إلى صفين  ودينكم أمام دنياكم ، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم ، ألا وقد أصبحتم بين قتيلين : قتيل بصفين  تبكون له ، وقتيل بالنهروان  تطلبون بثأره ، وأما الباقي فخاذل ، وأما الباكي فثائر ، ألا وإن  معاوية  دعانا لأمر ليس فيه عز ولا نصفة ، فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله ، عز وجل ، بظبى السيوف ، وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضى . 
فناداه الناس من كل جانب : البقية البقية ! وأمضى الصلح . 
ولما عزم على تسليم الأمر إلى  معاوية  خطب الناس فقال : أيها الناس إنما نحن أمراؤكم وضيفانكم ، ونحن أهل بيت نبيكم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا . وكرر ذلك حتى ما بقي في المجلس إلا من بكى حتى سمع نشيجه ( فلما ساروا إلى  معاوية  في الصلح اصطلحا على ما ذكرناه ) وسلم إليه  الحسن  الأمر . 
وكانت خلافة  الحسن  ، على قول من يقول : إنه سلم الأمر في ربيع الأول ، خمسة أشهر ونحو نصف شهر ، وعلى قول من يقول : في ربيع الآخر ، يكون ستة أشهر وشيئا ، وعلى قول من يقول : في جمادى الأولى ، يكون سبعة أشهر وشيئا ، والله تعالى أعلم . 
ولما اصطلحا وبايع  الحسن  معاوية  دخل  معاوية  الكوفة  وبايعه الناس ، وكتب  الحسن  إلى   قيس بن سعد  ، وهو على مقدمته في اثني عشر ألفا ، يأمره بالدخول في طاعة  معاوية  ، فقام  قيس  في الناس فقال : أيها الناس اختاروا الدخول في طاعة إمام ضلالة أو القتال مع غير إمام . فقال بعضهم : بل نختار الدخول في طاعة إمام ضلالة . فبايعوا  معاوية  أيضا . فانصرف  قيس  فيمن تبعه ، على ما نذكره . 
ولما دخل  معاوية  الكوفة  قال له   عمرو بن العاص  ليأمر  الحسن  أن يقوم فيخطب الناس ليظهر لهم عيه . فخطب  معاوية  الناس ثم أمر  الحسن  أن يخطبهم . فقام فحمد الله بديهة ثم قال : أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا ، وإن لهذا الأمر مدة والدنيا دول ، وإن الله ، عز وجل ، قال لنبيه : وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين    . فلما قاله قال له  معاوية     : اجلس ، وحقدها على  عمرو  وقال : هذا من رأيك . 
 [ ص: 8 ] ولحق  الحسن  بالمدينة  وأهل بيته وحشمهم ، وجعل الناس يبكون عند مسيرهم من الكوفة    . 
قيل  للحسن     : ما حملك على ما فعلت ؟ فقال : كرهت الدنيا ورأيت أهل الكوفة  قوما لا يثق بهم أحد أبدا إلا غلب ، ليس أحد منهم يوافق آخر في رأي ولا هوى ، مختلفين لا نية لهم في خير ولا شر ، لقد لقي أبي منهم أمورا عظاما ، فليت شعري لمن يصلحون بعدي ، وهي أسرع البلاد خرابا ! 
ولما سار  الحسن  من الكوفة  عرض له رجل فقال له : يا مسود وجوه المسلمين ! فقال : لا تعذلني فإن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، رأى في المنام بني أمية  ينزون على منبره رجلا فرجلا فساءه ذلك فأنزل الله عز وجل : إنا أعطيناك الكوثر  ، وهو نهر في الجنة ، و إنا أنزلناه في ليلة القدر  إلى قوله تعالى : خير من ألف شهر  ، يملكها بعدك بنو أمية    . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					