[ ص: 155 ]   ( 543 ) 
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة 
ذكر ملك الفرنج  مدينة المهدية  بإفريقية   
قد ذكرنا سنة إحدى وأربعين وخمسمائة مسير أهل  يوسف  ، وصاحب قابس  ، إلى  رجار  ، ملك صقلية  ، واستغاثتهم به ، فغضب لذلك ، وكان بينه وبين  الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي  ، صاحب إفريقية  ، صلح وعهود إلى مدة سنتين ، وعلم أنه فاته فتح البلاد في هذه الشدة التي أصابتهم ، وكانت الشدة دوام الغلاء في جميع المغرب  من سنة سبع وثلاثين إلى هذه السنة ، وكان أشد ذلك سنة اثنتين وأربعين ، فإن الناس فارقوا البلاد والقرى ، ودخل أكثرهم إلى مدينة صقلية  ، وأكل الناس بعضهم بعضا ، وكثر الموت في الناس ، فاغتنم  رجار  هذه الشدة ، فعمر الأسطول ، وأكثر منه ، فبلغ نحو مائتين وخمسين شينيا مملوءة رجالا وسلاحا وقوتا . 
وسار الأسطول عن صقلية  ، ووصل إلى جزيرة قوصرة  ، وهي بين المهدية  وصقلية  ، فصادفوا بها مركبا وصل من المهدية  ، فأخذ أهله وأحضروا بين يدي  جرجي  مقدم الأسطول ، فسألهم عن حال إفريقية  ، ووجد في المركب قفص حمام ، فسألهم هل أرسلوا منها ، فحلفوا أنهم لم يرسلوا منها شيئا ، فأمر الرجل الذي كان الحمام صحبته أن يكتب بخطه : إننا لما وصلنا جزيرة قوصرة  وجدنا بها مراكب من صقلية  ، فسألناهم عن الأسطول المخذول ، فذكروا أنه أقلع إلى جزائر القسطنطينية    . 
 [ ص: 156 ] وأطلق الحمام فوصل إلى المهدية  ، فسر الأمير  الحسن  والناس ; وأراد  جرجي  بذلك أن يصل بغتة ، ثم سار ، وقدر وصولهم إلى المهدية  وقت السحر ليحيط بها قبل أن يخرج أهلها ، فلو تم له ذلك لم يسلم منهم أحد ، فقدر الله تعالى أن أرسل عليهم ريحا هائلة عكستهم ، فلم يقدروا على المسير إلا بالمقاذيف ، فطلع النهار ثاني صفر في هذه السنة قبل وصولهم ، فرآهم الناس ، فلما رأى  جرجي  ذلك وأن الخديعة فاتته ، أرسل إلى الأمير  الحسن  يقول : إنما جئت بهذا الأسطول طالبا بثأر  محمد بن رشيد  صاحب قابس  ورده إليها ، وأما أنت فبيننا وبينك عهود وميثاق إلى مدة ، ونريد منك عسكرا يكون معنا . 
فجمع  الحسن  الناس من الفقهاء والأعيان وشاورهم ، فقالوا : نقاتل عدونا ، فإن بلدنا حصين . فقال : أخاف أن ينزل إلى البر ويحصرنا برا وبحرا ، ويحول بيننا وبين الميرة ، وليس عندنا ما يقوتنا شهرا ، فنؤخذ قهرا . وأنا أرى سلامة المسلمين من الأسر والقتل خيرا من الملك ، وقد طلب مني عسكرا إلى قابس  ، فإذا فعلت فما يحل لي معونة الكفار على المسلمين ، وإذا امتنعت يقول : انتقض ما بيننا من الصلح ، وليس يريد إلا أن يثبطنا حتى يحول بيننا وبين البر ، وليس لنا بقتاله طاقة ، والرأي أن نخرج بالأهل والولد ونترك البلد ، فمن أراد أن يفعل كفعلنا فليبادر معنا . 
وأمر في الحال بالرحيل ، وأخذ معه من حضره وما خف حمله ، وخرج الناس على وجوههم بأهليهم وأولادهم وما خف من أموالهم وأثاثهم ، ومن الناس من اختفى عند النصارى  وفي الكنائس ، وبقي الأسطول في البحر تمنعه الريح من الوصول إلى المهدية  إلى ثلثي النهار ، فلم يبق في البلد ممن عزم على الخروج أحد ، فوصل الفرنج  ودخلوا البلد بغير مانع ولا دافع ، ودخل  جرجي  القصر فوجده على حاله لم يأخذ  الحسن  منه إلا ما خفت من ذخائر الملوك ، وفيه جماعة من حظاياه ، ورأى الخزائن مملوءة من الذخائر النفيسة وكل شيء غريب يقل وجود مثله ، فختم عليه ، وجمع سراري  الحسن  في قصره . 
وكان عدة من ملك منهم من  زيري بن مناد  إلى  الحسن  تسعة ملوك ، ومدة   [ ص: 157 ] ولايتهم مائتا سنة وثماني سنوات ، من سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة إلى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ; وكان بعض القواد قد أرسله  الحسن  إلى  رجار  برسالة ، فأخذ لنفسه وأهله منه أمانا ، فلم يخرج معهم ، ولما ملك المدينة نهبت مقدار ساعتين ، ونودي بالأمان ، فخرج من كان مستخفيا ، وأصبح  جرجي  من الغد ، فأرسل إلى من قرب من العرب ، فدخلوا إليه ، فأحسن إليهم ، وأعطاهم أموالا جزيلة ، وأرسل من جند المهدية  الذين تخلفوا بها جماعة ، ومعهم أمان لأهل المهدية  الذين خرجوا منها ، ودواب يحملون الأطفال والنساء ، وكانوا قد أشرفوا على الهلاك من الجوع ، ولهم بالمهدية  خبايا وودائع ، فلما وصل إليهم الأمان رجعوا ، فلم تمض جمعة حتى رجع أكثر أهل البلد . 
وأما  الحسن  فإنه سار بأهله وأولاده ، وكانوا اثني عشر ولدا ذكرا غير الإناث وخواص خدمه ، قاصدا إلى  محرز بن زياد  ، وهو بالمعلقة ، فلقيه في طريقه أمير من العرب يسمى  حسن بن ثعلب  ، فطلب منه مالا انكسر له في ديوانه ، فلم يمكن  الحسن  إخراج مال لئلا يؤخذ ، فسلم إليه ولده  يحيى  رهينة وسار ، فوصل في اليوم الثاني إلى  محرز  ، وكان  الحسن  قد فضله على جميع العرب وأحسن إليه ، ووصله بكثير من المال ، فلقيه  محرز  لقاء جميلا ، وتوجع لما حل به ، فأقام عنده شهورا ،  والحسن  كاره للإقامة ، فأراد المسير إلى ديار مصر  إلى الخليفة  الحافظ العلوي  ، واشترى مركبا لسفره ، فسمع  جرجي الفرنجي  ، فجهز شواني ليأخذه ، فعاد  الحسن  عن ذلك ، وعزم على المسير إلى  عبد المؤمن  بالمغرب  ، فأرسل كبار أولاده  يحيى  وتميما  وعليا  إلى  يحيى بن العزيز  ، وهو من بني حماد  ، وهما أولاد عم ، يستأذنه في الوصول إليه ، وتجديد العهد به ، والمسير من عنده إلى  عبد المؤمن  ، فأذن له  يحيى  ، فسار إليه ، فلما وصل لم يجتمع به  يحيى  ، وسيره إلى جزيرة بني مزغناي  هو وأولاده ووكل به من يمنعهم من التصرف ، فبقوا كذلك إلى أن ملك  عبد المؤمن  بجاية سنة سبع وأربعين [ وخمسمائة ] ، فحضر عنده وقد ذكرنا حاله هناك . 
ولما استقر  جرجي  بالمهدية  سير أسطولا ، بعد أسبوع ، إلى مدينة سفاقس  ، وسير أسطولا آخر إلى مدينة سوسة  ، فأما سوسة  فإن أهلها لما سمعوا خبر المهدية  ، وكان   [ ص: 158 ] واليها   علي بن الحسن  الأمير ، فخرج إلى أبيه ، وخرج الناس لخروجه ، فدخلها الفرنج  بلا قتال ثاني عشر صفر ; وأما سفاقس  فإن أهلها أتاهم كثير من العرب ، فامتنعوا بهم ، فقاتلهم الفرنج  ، فخرج إليهم أهل البلد ، فأظهر الفرنج  الهزيمة ، وتبعهم الناس حتى أبعدوا عن البلد ، ثم عطفوا عليهم ، فانهزم قوم إلى البلد وقوم إلى البرية ، وقتل منهم جماعة ، ودخل الفرنج  البلد فملكوه بعد قتال شديد وقتلى كثيرة ، وأسر من بقي من الرجال وسبي الحريم ، وذلك في الثالث والعشرين من صفر ، ثم نودي بالأمان ، فعاد أهلها إليها ، وافتكوا حرمهم وأولادهم ، ورفق بهم وبأهل سوسة  والمهدية  ، وبعد ذلك وصلت كتب من  رجار  لجميع أهل إفريقية  بالأمان والمواعيد الحسنة . 
ولما استقرت أحوال البلاد سار  جرجي  في أسطول إلى قلعة إقليبية  ، وهي قلعة حصينة ، فلما وصل إليها سمعته العرب ، فاجتمعوا إليها ، ونزل إليهم الفرنج  ، فاقتتلوا فانهزم الفرنج  وقتل منهم خلق كثير ، فرجعوا خاسرين إلى المهدية  ، وصار للفرنج  من طرابلس الغرب  إلى قريب تونس ، ومن المغرب  إلى دون القيروان  ، والله أعلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					