[ ص: 5 ] 581
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وخمسمائة
ذكر صلاح الدين الموصل ، ورحيله عنها لوفاة شاه أرمن حصر
في هذه السنة حصر صلاح الدين يوسف بن أيوب الموصل مرة ثانية ، وكان مسيره من دمشق في ذي القعدة من السنة الماضية ، فوصل إلى حلب ، وأقام بها إلى أن خرجت السنة ، وسار منها فعبر إلى أرض الجزيرة ، فلما وصل حران قبض على الذي كان سبب ملكه مظفر الدين كوكبري بن زين الدين الديار الجزرية .
وسبب قبضه عليه أن مظفر الدين كان يراسل صلاح الدين كل وقت ، ويشير عليه بقصد الموصل ، ويحسن له ذلك ويقوي طمعه ، حتى إنه بذل له ، إذا سار إليها ، خمسين ألف دينار ، فلما وصل صلاح الدين إلى حران ، لم يف له بما بذل من المال ، وأنكر ذلك ، فقبض عليه ، ووكل به ، ثم أطلقه .
وأعاد إليه مدينتي حران والرها ، وكان قد أخذهما منه وإنما أطلقه لأنه خاف انحراف الناس عنه بالبلاد الجزرية ، لأنهم كلهم علموا بما اعتمده مظفر الدين معه من تمليكه البلاد فأطلقه .
وسار صلاح الدين عن حران في ربيع الأول ، فحضر عنده عساكر الحصن ، ودارا ، ومعز الدين سنجر شاه ، صاحب الجزيرة ، وهو ابن أخي عز الدين صاحب الموصل ، وكان قد فارق طاعة عمه بعد قبض مجاهد الدين ، وسار مع صلاح الدين إلى الموصل .
فلما وصلوا إلى مدينة بلد سير أتابك عز الدين والدته إلى صلاح الدين ومعها ابنة عمه وغيرهما من النساء ، وجماعة من أعيان الدولة ، يطلبون منه المصالحة ، وبذلوا له الموافقة ، والإنجاد بالعساكر ليعود عنهم . نور الدين محمود بن زنكي
وإنما أرسلهن لأنه وكل من عنده ظنوا أنهن إذا طلبن الشام أجابهن إلى ذلك ، لا سيما ومعهن ابنة مخدومه وولي نعمته نور الدين .
فلما وصلن إليه أنزلهن ، وأحضر أصحابه واستشارهم فيما يفعله ويقوله ، فأشار أكثرهم بإجابتهن إلى ما طلبن منه ، وقال له الفقيه عيسى وعلي بن أحمد المشطوب ، وهما من بلد الهكارية من أعمال [ ص: 6 ] الموصل : مثل الموصل لا يترك لامرأة ، فإن عز الدين ما أرسلهن إلا وقد عجز عن حفظ البلد .
ووافق ذلك هواه ، فأعادهن خائبات ، واعتذر بأعذار غير مقبولة ، ولم يكن إرسالهن عن ضعف ووهن ، إنما أرسلهن طلبا لدفع الشر بالتي هي أحسن . فلما عدن رحل صلاح الدين إلى الموصل وهو كالمتيقن أنه يملك البلد ، وكان الأمر بخلاف ذلك ، فلما قارب البلد نزل على فرسخ منه ، وامتد عسكره في تلك الصحراء بنواحي الحلة المراقية ، وكان يجري بين العسكرين مناوشات بظاهر الباب العمادي .
وكنت إذ ذاك بالموصل ، وبذل العامة نفوسهم غيظا وحنقا لرده النساء ، فرأى صلاح الدين ما لم يكن يحسبه ، فندم على رده النساء ندامة الكسعي ، حيث فاته حسن الذكر وملك البلد ، وعاد على الذين أشاروا بردهن باللوم والتوبيخ .
وجاءته كتب القاضي الفاضل وغيره ممن ليس له هوى في الموصل يقبحون فعله وينكرونه ، وأتاه وهو على الموصل زين الدين يوسف بن زين الدين صاحب إربل ، فأنزله ومعه أخوه وغيرهما من الأمراء بالجانب الشرقي من مظفر الدين كوكبري الموصل .
وسير من المنزلة علي بن أحمد المشطوب الهكاري إلى قلعة الجديدة من بلد الهكارية ، فحصرها واجتمع عليه من الأكراد والهكارية كثير ، وبقي هناك إلى أن رحل صلاح الدين عن الموصل .
وكان عامة الموصل يعبرون دجلة فيقاتلون من الجانب الشرقي من العسكر ويعودون ، ولما كان صلاح الدين يحاصر الموصل بلغ أتابك عز الدين صاحبها أن نائبه بالقلعة زلفندار يكاتبه ، فمنعه من الصعود إلى القلعة وعاد يقتدي برأي مجاهد الدين ، وكان قد أخرجه ، كما ذكرناه ، ويصدر عن رأيه ، وضبط الأمور ، وأصلح ما كان فسد من الأحوال ، حتى آل الأمر إلى الصلح ، على ما نذكره إن شاء الله .
وحضر عند صلاح الدين إنسان بغدادي أقام بالموصل ، ثم خرج إلى صلاح [ ص: 7 ] الدين فأشار عليه بقطع دجلة عن الموصل إلى ناحية نينوى ، وقال : إن دجلة إذا نقلت عن الموصل عطش أهلها فملكناها بغير قتال فظن صلاح الدين أن قوله صدق ، فعزم على ذلك ، حتى علم أنه لا يمكن قطعه بالكلية ، فإن المدة تطول ، والتعب يكثر ، ولا فائدة وراءه ، وقبحه عنده أصحابه ، فأعرض عنه .
وأقام بمكانه من أول ربيع الآخر إلى أن قارب آخره ، ثم رحل عنها إلى ميافارقين . وكان سبب ذلك أن شاه أرمن ، صاحب خلاط ، توفي بها تاسع ربيع الآخر ، فوصل الخبر بوفاته في العشرين منه فعزم على الرحيل إليها وتملكها ، حيث إن شاه أرمن لم يخلف ولدا ولا أحدا من أهل بيته يملك بلاده بعده ، وإنما قد استولى عليها مملوك له اسمه بكتمر ولقبه سيف الدين .
فاستشار صلاح الدين أمراءه ووزراءه ، فاختلفوا ، فأما من هواه بالموصل فيشير بالمقام وملازمة الحصار لها ، وأما من يكره أذى البيت الأتابكي فإنه أشار بالرحيل ، وقال : إن ولاية خلاط أكبر وأعظم ، وهي سائبة لا حافظ لها ، وهذه لها سلطان يحفظها ويذب عنها ، وإذا ملكنا تلك سهل أمر هذه وغيرها ، فتتردد في أمره .
فاتفق أنه جاءه كتب جماعة من أعيان خلاط ، من أهلها وأمرائها ، يستدعونه ليسلموا إليه البلد ، فسار عن الموصل ، وكانت مكاتبة من كاتبه خديعة ومكرا ، فإن شمس الدين البهلوان بن إيلدكز ، صاحب أذربيجان وهمذان وتلك المملكة ، قد قصدهم ليأخذ البلاد منهم ، وكان قبل ذلك قد زوج شاه أرمن ، على كبر سنه ، بنتا له ليجعل ذلك طريقا إلى ملك خلاط وأعمالها .
فلما بلغهم مسيره إليهم كاتبوا صلاح الدين يستدعونه إليهم ليسلموا البلد إليه ليدفعوا به البهلوان ويدفعوه بالبهلوان ، ويبقى البلد بأيديهم ، فسار صلاح الدين وسير في مقدمته ابن عمه ، ناصر الدين محمد بن شيركوه ومظفر الدين بن زين الدين وغيرهما .
فساروا إلى خلاط ، ونزلوا بطوانة بالقرب من خلاط ، وسار صلاح الدين إلى ميافارقين ، وأما البهلوان فإنه سار إلى خلاط ، ونزل قريبا منها ، وترددت رسل أهل خلاط بينهم وبينه وبين صلاح الدين ، ثم إنهم أصلحوا أمرهم مع البهلوان ، وصاروا من حزبه وخطبوا له .