[ ص: 109 ] 145
ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائة
ذكر محمد بن عبد الله بن الحسن ظهور
في هذه السنة كان ظهور محمد بن عبد الله بن الحسنبن الحسن بن علي بن أبي طالب بالمدينة ، لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة ، وقيل : رابع عشر شهر رمضان . وقد ذكرنا فيما تقدم أخباره وتبعته وحمل المنصور أهله إلى العراق .
فلما حملهم وسار بهم رد رياحا إلى المدينة أميرا عليها ، فألح في طلب محمد وضيق عليه ، وطلبه حتى سقط ابنه فمات ، وأرهقه الطلب يوما ، فتدلى في بئر بالمدينة يناول أصحابه الماء ، وانغمس في الماء إلى حلقه ، وكان بدنه لا يخفى لعظمه ، وبلغ رياحا خبر محمد وأنه بالمذار ، فركب نحوه في جنده ، فتنحى محمد عن طريقه واختفى في دار الجهنية ، فحيث لم يره رياح رجع إلى دار مروان .
وكان الذي أعلم رياحا سليمان بن عبد الله بن أبي سبرة .
فلما اشتد الطلب بمحمد خرج قبل وقته الذي واعد أخاه إبراهيم على الخروج فيه .
وقيل : بل خرج محمد لميعاده مع أخيه ، وإنما أخوه تأخر لجدري لحقه ، وكان عبيد الله بن عمرو بن أبي ذئب ، وعبد الحميد بن جعفر يقولان لمحمد بن عبد الله : ما تنتظر بالخروج ! فوالله ما على هذه الأمة أشأم منك . اخرج ولو وحدك . فتحرك بذلك أيضا .
وأتى رياحا الخبر أن محمدا خارج الليلة ، فأحضر محمد بن عمران بن إبراهيم بن [ ص: 110 ] محمد قاضي المدينة ، والعباس بن عبد الله بن الحارث بن العباس وغيرهما عنده ، فصمت طويلا ثم قال لهم : يا أهل المدينة ، أمير المؤمنين يطلب محمدا في شرق الأرض وغربها وهو بين أظهركم ، وأقسم بالله لئن خرج لأقتلنكم أجمعين ! .
وقال لمحمد بن عمران : أنت قاضي أمير المؤمنين فادع عشيرتك ، وأرسل لتجمع بني زهرة ، فأرسل فجاءوا في جمع كثير فأجلسهم بالباب ، فأرسل فأخذ نفرا من العلويين وغيرهم ، فيهم : ، جعفر بن محمد بن علي بن الحسين والحسين بن علي بن الحسين بن علي ، والحسن بن علي بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي ، ورجال من قريش فيهم إسماعيل بن أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة وابنه خالد .
فبينما هم عنده إذ ظهر محمد ، فسمعوا التكبير ، فقال ابن مسلم بن عقبة المري : أطعني في هؤلاء واضرب أعناقهم . فقال له الحسين بن علي بن الحسين بن علي : والله ما ذاك إليك ، إنا لعلى السمع والطاعة .
وأقبل محمد من المذار في مائة وخمسين رجلا ، فأتى في بني سلمة بهؤلاء تفاؤلا بالسلامة ، وقصد السجن فكسر بابه وأخرج من فيه ، وكان فيهم محمد بن خالد بن عبد الله القسري ، وابن أخي النذير بن يزيد ورزام ، فأخرجهم وجعل على الرجالة خوات بن بكير بن خوات بن جبير ، وأتى دار الإمارة وهو يقول لأصحابه : لا تقتلوا إلا يقتلوا .
فامتنع منهم رياح ، فدخلوا من باب المقصورة ، وأخذوا رياحا أسيرا وأخاه عباسا ، وابن مسلم بن عقبة المري فحبسهم في دار الإمارة .
ثم خرج إلى المسجد فصعد المنبر فخطب الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد : فإنه قد كان من أمر هذا الطاغية عدو الله أبي جعفر ما لم يخف عليكم من بنائه القبة الخضراء التي بناها معاندة لله في ملكه ، وتصغيرا للكعبة الحرام ، وإنما أخذ الله فرعون حين قال : أنا ربكم الأعلى ، وإن أحق الناس بالقيام في هذا الدين أبناء [ ص: 111 ] المهاجرين والأنصار المواسين ، اللهم إنهم قد أحلوا حرامك وحرموا حلالك ، وآمنوا من أخفت وأخافوا من آمنت ! اللهم فأحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تغادر منهم أحدا ! أيها الناس ، إني والله ما خرجت [ من ] بين أظهركم وأنتم عندي أهل قوة ولا شدة ، ولكني اخترتكم لنفسي ! والله ما جئت هذه وفي الأرض مصر يعبد الله فيه إلا وقد أخذ لي فيه البيعة !
وكان المنصور يكتب إلى محمد على ألسن قواده يدعونه إلى الظهور ويخبرونه أنهم معه ، فكان محمد يقول : لو التقينا مال إلي القواد كلهم .
واستولى محمد على المدينة واستعمل عليها عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير ، وعلى قضائها : عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله المخزومي ، وعلى بيت السلاح : ، وعلى الشرط : عبد العزيز الدراوردي أبا القلمس عثمان بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، وعلى ديوان العطاء : ، وقيل : كان على شرطه : عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة عبد الحميد بن جعفر فعزله .
وأرسل محمد إلى محمد بن عبد العزيز : إني كنت لأظنك ستنصرنا وتقوم معنا . فاعتذر إليه وقال : أفعل ، ثم انسل منه وأتى مكة . ولم يتخلف عن محمد أحد من وجوه الناس إلا نفر ، منهم : الضحاك بن عثمان بن عبد الله بن خالد بن حزام ، وعبد الله بن المنذر بن المغيرة بن عبد الله بن خالد ، وأبو سلمة بن عبيد الله بن عبيد الله بن عمر ، وخبيب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير .
وكان أهل المدينة قد استفتوا في الخروج مع مالك بن أنس محمد وقالوا : إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر ، فقال : إنما بايعتم مكرهين ، وليس على مكره يمين . فأسرع الناس إلى محمد ولزم مالك بيته .
فأرسل محمد إلى إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وكان شيخا كبيرا ، [ ص: 112 ] فدعاه إلى بيعته ، فقال : يا ابن أخي أنت والله مقتول فكيف أبايعك ؟ فارتدع الناس عنه قليلا .
وكان بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر قد أسرعوا إلى محمد ، فأتت حمادة بنت معاوية إلى إسماعيل بن عبد الله وقالت له : يا عم إن إخوتي قد أسرعوا إلى ابن خالهم ، وإنك إن قلت هذه المقالة ثبطت الناس عنه ، فيقتل ابن خالي وإخوتي . فأبى إسماعيل إلا النهي عنه .
فيقال : إن حمادة عدت عليه فقتلته ، فأراد محمد الصلاة عليه فمنعه عبد الله بن إسماعيل وقال : أتأمر بقتل أبي وتصلي عليه ؟ فنحاه الحرس وصلى عليه محمد .
ولما ظهر محمد كان محمد بن خالد القسري بالمدينة في حبس رياح فأطلقه .
وقال ابن خالد : فلما سمعت دعوته التي دعا إليها على المنبر قلت : هذه دعوة حق ، والله لأبلين لله فيها بلاء حسنا . فقلت : يا أمير المؤمنين ، إنك قد خرجت بهذا البلد ، والله لو وقف على نقب من أنقابه أحد لمات أهله جوعا وعطشا ، فانهض معي فإنما هي عشر حتى أضربه بمائة ألف سيف .
فأبى علي ، فبينا أنا عنده إذ قال : ما وجدنا من خير المتاع شيئا أجود من شيء وجدناه عند ابن أبي فروة ختن أبي الخصيب ، وكان انتبه ، قال : فقلت : ألا أراك قد أبصرت خير المتاع ! فكتبت إلى المنصور فأخبرته بقلة من معه ، فأخذني محمد فحبسني حتى أطلقني بعد قتله بأيام . عيسى بن موسى
وكان رجل من آل أويس بن أبي سرح العامري ، عامر بن لؤي ، اسمه الحسين بن صخر بالمدينة لما ظهر محمد ، فسار من ساعته إلى المنصور فبلغه في تسعة أيام ، فقدم ليلا ، فقام على أبواب المدينة فصاح حتى علموا به وأدخلوه ، فقال الربيع : ما حاجتك هذه الساعة وأمير المؤمنين نائم ؟ قال : لا بد لي منه .
فدخل عليه فقال : يا أمير المؤمنين خرج محمد بن عبد الله بالمدينة ! قال : قتلته والله إن كنت صادقا ، أخبرني من معه . فسمى له من معه من وجوه أهل المدينة وأهل بيته . قال : أنت رأيته وعاينته ؟ قال : أنا رأيته وعاينته وكلمته على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا ، فأدخله أبو [ ص: 113 ] جعفر بيتا ، فلما أصبح جاء رسول لسعيد بن دينار غلام يلي أمواله عيسى بن موسى بالمدينة فأخبره بأمر محمد ، وتواترت عليه أخباره ، فأخرج الأويسي ، فقال : لأوطئن الرجال عقبيك ولأغنينك ! فأمر له بتسعة آلاف درهم لكل ليلة ألف درهم .
وأشفق من محمد ، فقال له الحارثي المنجم : يا أمير المؤمنين ، ما يجزعك منه ؟ والله لو ملك الأرض ما لبث إلا تسعين يوما .
فأرسل المنصور إلى عمه ، وهو محبوس : إن هذا الرجل قد خرج فإن كان عندك رأي فأشر به علينا ، وكان ذا رأي عندهم ، فقال : إن المحبوس محبوس الرأي . فأرسل إليه عبد الله بن علي المنصور : لو جاءني حتى يضرب بابي ما أخرجتك ، وأنا خير لك منه ، وهو ملك أهل بيتك .
فأعاد عليه عبد الله : ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة فاجثم على أكبادهم ، فإنهم شيعة أهل هذا البيت وأنصارهم ، ثم احففها بالمسالح ، فمن خرج منها إلى وجه من الوجوه أو أتاها من وجه من الوجوه فاضرب عنقه ، وابعث إلى ينحدر إليك ، وكان سلم بن قتيبة بالري ، واكتب إلى أهل الشام فمرهم أن يحملوا إليك من أهل البأس والنجدة ما حمل البريد فأحسن جوائزهم ووجههم مع سلم . ففعل .
وقيل : أرسل المنصور إلى عبد الله مع إخوته يستشيرونه في أمر محمد ، وقال لهم : لا يعلم عبد الله أني أرسلتكم إليه . فلما دخلوا عليه قال : لأمر ما جئتم ، ما جاء بكم جميعا وقد هجرتموني مذ دهر ؟ قالوا : إنا استأذنا أمير المؤمنين ، فأذن لنا . قال : ليس هذا بشيء ، فما الخبر ؟ قالوا : خرج محمد بن عبد الله . قال : فما ترون ابن سلامة صانعا ؟ يعني المنصور . قالوا : لا ندري والله . قال : إن البخل قد قتله ، فمروه فليخرج الأموال وليعط الأجناد ، فإن غلب فما أسرع ما يعود إليه ماله ، وإن غلب لم يقدم صاحبه على دينار ولا درهم .
ولما ورد الخبر على المنصور بخروج محمد كان المنصور قد خط مدينة بغداد بالقصب ، فسار إلى الكوفة ومعه عبد الله بن الربيع بن عبيد الله بن المداد ، ، فقال له [ ص: 114 ] المنصور : إن محمدا قد خرج بالمدينة . فقال عبد الله : هلك وأهلك ، خرج في غير عدد ولا رجال .
حدثني سعيد بن عمرو بن جعدة المخزومي قال : كنت مع مروان يوم الزاب واقفا ، فقال لي مروان : من هذا الذي يقاتلني ؟ قلت : عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس . قال : وددت والله أن يقاتلني مكانه ، إن علي بن أبي طالب عليا وولده لا حظ لهم في هذا الأمر ، وهل هو إلا رجل من بني هاشم وابن عم رسول الله معه ريح الشام ونصر الشام ؟ يا ابن جعدة أتدري ما حملني أن عقدت لعبد الله وعبيد الله بعدي وتركت عبد الملك وهو أكبر من عبيد الله ؟ قال ابن جعدة : لا . قال : وجدت الذي يلي هذا الأمر عبد الله وعبيد الله ، وكان عبيد الله أقرب إلى عبد الله من عبد الملك ، فعقدت له ، فاستخلفه المنصور على صحة ذلك ، فحلف له ، فسري عنه .
ولما بلغ المنصور خبر ظهور محمد قال لأبي أيوب وعبد الملك : هل من رجل تعرفانه بالرأي يجمع رأيه إلى رأينا ؟ قالا : بالكوفة بديل بن يحيى ، وكان يشاوره ، فأرسل إليه وقال له : إن السفاح محمدا قد ظهر بالمدينة . قال : فاشحن الأهواز بالجنود . قال : إنه ظهر بالمدينة ! قال : قد فهمت وإنما الأهواز الباب الذي تؤتون منه . فلما ظهر إبراهيم بالبصرة قال له المنصور ذلك ، قال : فعاجله بالجنود واشغل الأهواز عليه .
وشاور المنصور أيضا جعفر بن حنظلة البهراني عند ظهور محمد ، فقال : وجه الجنود إلى البصرة . قال : انصرف حتى أرسل إليك . فلما صار إبراهيم إلى البصرة أرسل إليه فقال له ذلك ، فقال : إني خفت بادرة الجنود . قال : وكيف خفت البصرة ؟ قال : لأن محمدا ظهر بالمدينة وليسوا أهل الحرب ، بحسبهم أن يقيموا شأن أنفسهم ، وأهل الكوفة تحت قدمك ، وأهل الشام أعداء آل أبي طالب ، فلم يبق إلا البصرة .
ثم إن المنصور كتب إلى محمد : بسم الله الرحمن الرحيم ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ) الآيتين ، ولك عهد الله وميثاقه ، وذمة رسوله أن أؤمنك ، وجميع ولدك ، وإخوتك ، وأهل بيتك ومن اتبعكم على دمائكم وأموالكم ، وأسوغك [ ص: 115 ] ما أصبت من دم أو مال ، وأعطيك ألف ألف درهم ، وما سألت من الحوائج ، وأنزلك من البلاد حيث شئت ، وأن أطلق من في حبسي من أهل بيتك .
وأن أؤمن كل من جاءك وبايعك واتبعك أو دخل في شيء من أمرك ثم لا أتبع أحدا منهم بشيء كان منه أبدا ، فإن أردت أن تتوثق لنفسك فوجه إلي من أحببت يأخذ لك من الأمان والعهد والميثاق ما تتوثق به ، والسلام .
فكتب إليه محمد : ( طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ) إلى : ( يحذرون ) وأنا أعرض عليك من الأمان مثل ما عرضت علي ، فإن الحق حقنا وإنما ادعيتم هذا الأمر بنا وخرجتم له بشيعتنا وحظيتم بفضله ، فإن أبانا عليا كان الوصي وكان الإمام ، فكيف ورثتم ولايته ، وولده أحياء ؟
ثم قد علمت أنه لم يطلب الأمر أحد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آبائنا ، لسنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء ، وليس يمت أحد من بني هاشم بمثل الذي نمت به من القرابة والسابقة والفضل ، وإنا بنو أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة بنت عمرو في الجاهلية ، وبنو بنته فاطمة في الإسلام دونكم .
إن الله اختارنا واختار لنا ، فوالدنا من النبيين محمد أفضلهم ، ومن السلف أولهم إسلاما علي ، ومن الأزواج أفضلهن الطاهرة وأول من صلى [ إلى ] القبلة ، ومن البنات خيرهن خديجة فاطمة سيدة نساء العالمين وأهل الجنة ، ومن المولودين في الإسلام حسن وحسين سيدا شباب أهل الجنة ، وإن هاشما ولد عليا مرتين ، وإن عبد المطلب ولد حسنا مرتين ، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولدني مرتين من قبل حسن وحسين .
وإني أوسط بني هاشم نسبا وأصرحهم أبا ، لم تعرق في العجم ، ولم تنازع في أمهات الأولاد ، فما زال الله يختار لي الآباء ، [ ص: 116 ] والأمهات في الجاهلية والإسلام حتى اختار لي في الأشرار ، ( فأنا ابن أرفع الناس درجة في الجنة ، وأهونهم عذابا في النار ) ، ولك الله علي إن دخلت في طاعتي وأجبت دعوتي أن أؤمنك على نفسك ومالك وعلى كل أمر أحدثته إلا حدا من حدود الله أو حقا لمسلم أو معاهد ، فقد علمت ما يلزمني من ذلك .
وأنا أولى بالأمر منك وأوفى بالعهد ، لأنك أعطيتني من الأمان والعهد ما أعطيته رجالا قبلي ، فأي الأمانات تعطيني ؟ أمان ابن هبيرة ، أم أمان عمك ، أم أمان عبد الله بن علي أبي مسلم ؟
فلما ورد كتابه على المنصور قال له : دعني أجبه عليه . قال : لا إذا تقارعنا على الأحساب ، فدعني وإياه . ثم كتب إليه أبو أيوب المورياني المنصور : بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد فقد بلغني كلامك وقرأت كتابك ، فإذا جل فخرك بقرابة النساء لتضل به الجفاة والغوغاء ، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء ، ولا كالعصبة والأولياء ، لأن الله جعل العم أبا ، وبدأ به في كتابه على الوالدة الدنيا ، ولو كان اختيار الله لهن على قدر قرابتهن كانت آمنة أقربهن رحما ، وأعظمهن حقا ، وأول من يدخل الجنة ، [ غدا ] ولكن اختيار الله لخلقه على علمه فيما مضى منهم واصطفائه لهم .
وأما ما ذكرت من فاطمة أم أبي طالب وولادتها فإن الله لم يرزق أحدا من ولدها الإسلام لا بنتا ولا ابنا ، ولو أن رجلا رزق الإسلام بالقرابة رزقه عبد الله ولكان أولاهم بكل خير في الدنيا والآخرة ، ولكن الأمر لله يختار لدينه من يشاء ، قال الله تعالى : [ ص: 117 ] ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ) . ولقد بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - وله عمومة أربعة ، فأنزل الله ، عز وجل : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) فأنذرهم ودعاهم ، فأجاب اثنان ، أحدهما أبي ، وأبى اثنان ، أحدهما أبوك ، فقطع الله ولايتهما منه ولم يجعل بينه وبينهما إلا ولا ذمة ولا ميراثا .
وزعمت أنك ابن أخف أهل النار عذابا وابن خير الأشرار ، وليس في الكفر بالله صغير ، ولا في عذاب الله خفيف ولا يسير ، وليس في الشر خيار ، ولا ينبغي لمؤمن يؤمن بالله أن يفخر بالنار ، وسترد فتعلم ( وسيعلم الذين ظلموا ) الآية .
وأما أمر حسن وأن عبد المطلب ولده مرتين وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولدك مرتين ، فخير الأولين والآخرين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يلده هاشم إلا مرة ، ولا عبد المطلب إلا مرة . وزعمت أنك أوسط بني هاشم وأصرحهم أما وأبا ، وأنه لم يلدك العجم ولم تعرق فيك أمهات الأولاد ، فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طرا ، فانظر ، ويحك ، أين أنت من الله غدا ! فإنك قد تعديت طورك وفخرت على من هو خير منك نفسا وأبا وأولادا وأخا إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وما خيار بني أبيك خاصة وأهل الفضل منهم إلا بنو أمهات الأولاد ، ما ولد فيكم بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من علي بن الحسين ، وهو لأم ولد ، ولهو خير من جدك حسن بن حسن ، وما كان فيكم بعده مثل محمد بن علي ، وجدته أم ولد ، ولهو خير من أبيك ، ولا مثل ابنه جعفر وجدته أم ولد ، وهو خير منك .
[ ص: 118 ] وأما قولك إنكم بنو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن الله تعالى يقول في كتابه : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ) ولكنكم بنو بنته ، وإنها لقرابة قريبة ، ولكنها لا يجوز لها الميراث ، ولا ترث الولاية ، ولا يجوز لها الإمامة ، فكيف تورث بها ؟ ولقد طلبها أبوك بكل وجه فأخرج فاطمة نهارا ، ومرضها سرا ، ودفنها ليلا ، فأبى الناس إلا الشيخين ، ولقد جاءت السنة التي لا اختلاف فيها بين المسلمين أن الجد أبا الأم والخال والخالة لا يورثون .
وأما ما فخرت به من علي وسابقته ، فقد حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوفاة فأمر غيره بالصلاة ثم أخذ الناس رجلا بعد رجل فلم يأخذوه ، وكان في الستة فتركوه كلهم دفعا له عنها ، ولم يروا له حقا فيها .
وأما عبد الرحمن فقدم عليه عثمان وهو له متهم ، وقاتله طلحة والزبير ، وأبى سعد بيعته فأغلق بابه دونه ، ثم بايع معاوية بعده ، ثم طلبها بكل وجه وقاتل عليها وتفرق عنه أصحابه وشك فيه شيعته قبل الحكومة ، ثم حكم حكمين رضي بهما ، وأعطاهما عهد الله وميثاقه ، فاجتمعا على خلعه ، ثم كان حسن فباعها من معاوية بخرق ودراهم ، ولحق بالحجاز ، وأسلم شيعته بيد معاوية ، ودفع الأمر إلى غير أهله ، وأخذ مالا من غير ولائه ولا حله ، فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه وأخذتم ثمنه .
ثم خرج عمك حسين على ابن مرجانة ، فكان الناس معه عليه حتى قتلوه ، وأتوا برأسه إليه ، ثم خرجتم على بني أمية فقتلوكم وصلبوكم على جذوع النخل ، وأحرقوكم بالنيران ، ونفوكم من البلدان ، حتى قتل يحيى بن زيد بخراسان ، وقتلوا رجالكم ، وأسروا الصبية والنساء [ ص: 119 ] وحملوهم بلا وطاء في المحامل كالسبي المجلوب إلى الشام .
حتى خرجنا عليهم فطلبنا بثأركم ، وأدركنا بدمائكم ، وأورثناكم أرضهم وديارهم ، وسنينا سلفكم وفضلناه ، فاتخذت ذلك علينا حجة ، وظننت أنا إنما ذكرنا أباك للتقدمة منا له على حمزة والعباس وجعفر ، وليس ذلك كما ظننت ، ولكن خرج هؤلاء من الدنيا سالمين متسلما منهم ، مجتمعا عليهم بالفضل ، وابتلي أبوك بالقتال والحرب ، وكانت بنو أمية تلعنه كما تلعن الكفرة في الصلاة المكتوبة ، فاحتججنا [ له ] وذكرناهم فضله وعنفناهم وظلمناهم بما نالوا منه .
فلقد علمت أن مكرمتنا في الجاهلية سقاية الحاج الأعظم ، وولاية زمزم ، فصارت للعباس من بين إخوته ، فنازعنا فيها أبوك فقضى لنا عليه عمر ، فلم نزل نليها في الجاهلية والإسلام ، ولقد قحط أهل المدينة فلم يتوسل عمر إلى ربه ولم يتقرب إليه إلا بأبينا حتى نعشهم الله ، وسقاهم الغيث وأبوك حاضر لم يتوسل به ، ولقد علمت أنه لم يبق أحد من بني عبد المطلب بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - غيره فكانت وراثة من عمومته ، ثم طلب هذا الأمر غير واحد من بني هاشم فلم ينله إلا ولده ، فالسقاية سقايته ، وميراث النبي له ، والخلافة في ولده ، فلم يبق شرف ولا فضل في جاهلية ولا إسلام في الدنيا والآخرة إلا والعباس وارثه مورثه .
وأما ما ذكرت من بدر ، فإن الإسلام جاء والعباس يمون أبا طالب وعياله ، وينفق عليهم للأزمة التي أصابته ، ولولا أن العباس أخرج إلى بدر كارها لمات طالب وعقيل جوعا ، وللحسا جفان عتبة وشيبة ، ولكنه كان من المطعمين فأذهب عنكم العار والسبة وكفاكم النفقة والمئونة ، ثم فدى عقيلا يوم بدر ، فكيف تفخر علينا وقد علناكم في الكفر وفديناكم [ من الأسر ] وحزنا عليكم مكارم الآباء ، وورثنا دونكم [ ص: 120 ] خاتم الأنبياء ، وطلبنا بثأركم فأدركنا منه ما عجزتم عنه ، ولم تدركوا لأنفسكم ! والسلام عليكم ورحمة الله .
فكان محمد قد استعمل محمد بن الحسن بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب على مكة ، والقاسم بن إسحاق على اليمن ، وموسى بن عبد الله على الشام ، فأما محمد بن الحسن والقاسم فسارا إلى مكة ، فخرج إليهما السري بن عبد الله عامل المنصور على مكة فلقيهما ببطن أذاخر فهزماه .
ودخل محمد مكة وأقام بها يسيرا ، فأتاه كتاب محمد بن عبد الله يأمره بالمسير إليه فيمن معه ويخبره بمسير إليه ليحاربه ، فسار إليه من عيسى بن موسى مكة هو والقاسم ، فبلغه بنواحي قديد قتل محمد ، فهرب هو وأصحابه وتفرقوا .
فلحق محمد بن الحسن بإبراهيم فأقام عنده حتى قتل إبراهيم ، واختفى القاسم بالمدينة حتى أخذت له ابنة عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر - امرأة عيسى - الأمان له ولإخوته معاوية وغيره .
وأما موسى بن عبد الله فسار نحو الشام ومعه رزام مولى محمد بن خالد القسري ، فانسل منه رزام وسار إلى المنصور برسالة من مولاه محمد القسري ، فظهر محمد بن عبد الله على ذلك ، فحبس محمدا القسري ، ووصل موسى إلى الشام فرأى منهم سوء رد عليه وغلظة ، فكتب إليه محمد : أخبرك أني لقيت الشام وأهله ، فكان أحسنهم قولا الذي قال : والله لقد مللنا البلاء وضقنا حتى ما فينا لهذا الأمر موضع ولا بنا به حاجة ، ومنهم طائفة تحلف لئن أصبحنا من ليلتنا وأمسينا من غد ليرفعن أمرنا ، فكتبت إليك وقد غيبت وجهي ، وخفت على نفسي . ثم رجع إلى المدينة .
وقيل : أتى البصرة وأرسل صاحبا له يشتري له طعاما ، فاشتراه وجاء به على حمال أسود فأدخله الدار التي سكنها وخرج ، فلم يكن بأسرع من أن كبست الدار وأخذ موسى وابنه عبد الله وغلامه ، فأخذوا وحملوا إلى محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس .
فلما رأى موسى قال : لا قرب الله قرابتكم ، ولا حيا وجوهكم ! تركت البلاد كلها إلا بلدا أنا فيه ، فإن وصلت أرحامكم أغضبت أمير المؤمنين ، وإن أطعته قطعت [ ص: 121 ] أرحامكم .
ثم أرسلهم إلى المنصور ، فأمر فضرب موسى وابنه كل واحد خمسمائة سوط ، فلم يتأوهوا . فقال المنصور : أعذرت أهل الباطل في صبرهم ، فما بال هؤلاء ؟ فقال موسى : أهل الحق أولى بالصبر . ثم أخرجهم وأمر بهم فسجنوا .
( خبيب بن ثابت : بالخاء المعجمة المضمومة ، وببائين موحدتين وبينهما ياء مثناة من تحتها ) .