ذكر أردشير بن بابك وملوك الفرس أخبار
[ ص: 348 ] قيل : لما مضى من لدن ملك الإسكندر أرض بابل ، في قول النصارى وأهل الكتب الأول ، خمسمائة سنة وثلاث وعشرون سنة ، وفي قول المجوس : مائتان وست وستون ، وثب أردشير بن بابك بن ساسان الأصغر بن بابك بن ساسان بن بابك بن مهرمس بن ساسان بن بهمن الملك بن إسفنديار بن بشتاسب - وقيل في نسبته غير ذلك ، يريد الأخذ بثأر الملك دارا بن دارا ، ورد الملك إلى أهله ، وإلى ما لم يزل عليه أيام سلفه الذين مضوا قبل ملوك الطوائف وجمعه لرئيس واحد .
وذكر أن مولده كان بقرية من قرى إصطخر يقال لها : طيزوده من رستاق إصطخر ، وكان جده ساسان شجاعا مغرى بالصيد ، وتزوج امرأة من نسل ملوك فارس يعرفون بالبادرنجيين ، وكان قيما على بيت نار بإصطخر يقال لها بيت نارهيد ، فولدت له بابك ، فلما كبر قام بأمر الناس بعد أبيه ، ثم ولد له ابنه أردشير .
وكان ملك إصطخر يومئذ رجل من البادرنجيين يقال له جوزهر ، وكان له خصي اسمه تيرى قد صيره أرجيدا بداربجرد . فلما أتى لأردشير سبع سنين قدمه أبوه إلى [ ص: 349 ] جوزهر وسأله أن يضمه إلى تيرى ليكون ربيبا له وأرجيدا بعده في موضعه ، فأجابه وأرسله إلى تيرى ، فقبله وتبناه .
فلما هلك تيرى تقلد أردشير الأمر وحسن قيامه به ، وأعلمه قوم من المنجمين صلاح مولده وأنه يملك البلاد ، فازداد في الخير ، ورأى في منامه ملكا جلس عند رأسه فقال له : إن الله يملكك البلاد ، فقويت نفسه قوة لم يعهدها ، وكان أول ما فعل أنه سار إلى موضع من دارابجرد يسمى خوبابان فقتل ملكها ، واسمه فاسين ، ثم سار إلى موضع يقال له كوسن فقتل ملكها ، واسمه منوجهر ثم سار إلى موضع يقال له لزويز فقتل ملكها ، واسمه دارا وجعل في هذه المواضع قوما من قبله ، وكتب إلى أبيه بما كان منه ، وأمره بالوثوب بجوزهر ، وهو بالبيضاء ، ففعل ذلك وقتل جوزهر وأخذ تاجه ، وكتب إلى أردوان ملك الجبال وما يتصل بها يتضرع إليه ويسأله في تتويج ابنه سابور بتاج جوزهر ، فمنعه من ذلك وهدده ، فلم يحفل بابك بذلك وهلك في ثلاثة أيام ، فتتوج سابور بن بابك بالتاج وملك مكان أبيه ، وكتب إلى أردشير يستدعيه ، فامتنع ، فغضب سابور وجمع جموعا وسار بهم نحوه ليحاربهم ، وخرج من إصطخر وبها عدة من أصحابه وإخوانه وأقاربه وفيهم من هو أكبر سنا منه ، فأخذوا التاج والسرير وسلموها إلى أردشير ، فتتوج وافتتح أمره بجد وقوة وجعل له وزيرا ورتب موبذان موبذ ، وأحس من إخوته وقوم كانوا معه بالفتك به ، فقتل جماعة كثيرة منهم ، وعصى عليه أهل دارابجرد فعاد إليهم فافتتحها وقتل جماعة من أهلها ، ثم سار إلى كرمان وبها ملك يقال له بلاش فاقتتلا قتالا شديدا ، وقاتل أردشير بنفسه وأسر بلاش ، فاستولى على المدينة وجعل فيها ابنا له اسمه أردشير أيضا .
وكان في سواحل بحر فارس ملك اسمه اسيون يعظم فسار إليه أردشير فقتله [ ص: 350 ] وقتل من معه واستخرج له أموالا عظيمة .
وكتب إلى جماعة من الملوك ، منهم : مهرك صاحب ابرساس من أردشير خرة ، يدعوهم إلى الطاعة ، فلم يفعلوا ، فسار إليهم فقتل مهرك ، ثم سار إلى جور فأسسها وبنى الجوسق المعروف بالطربال وبيت نار هناك .
فبينا هو كذلك إذ ورد إليه رسول أردوان بكتاب ، فجمع الناس فقرأه عليهم ، فإذا فيه : إنك عدوت قدرك واجتلبت حتفك أيها الكردي ! من أذن لك في التاج والبلاد ؟ ومن أمرك ببناء المدينة ؟ وأعلمه أنه قد وجه إليه ملك الأهواز ليأتيه به في وثاق .
فكتب إليه : إن الله حباني بالتاج وملكني البلاد ، وأنا أرجو أن يمكنني منك فأبعث برأسك إلى بيت النار الذي أسسته .
وسار أردشير نحو إصطخر وخلف وزيره أبرسام بأردشير خرة ، فلم يلبث إلا قليلا حتى ورد عليه كتاب أبرسام بموافاة ملك الأهواز وعوده منكوبا ، ثم سار إلى أصبهان فملكها وقتل ملكها ، وعاد إلى فارس وتوجه إلى محاربة نيروفر صاحب الأهواز ، وسار إلى أرجان وإلى ميسان وطاسار ، ثم إلى سرق ، فوقف على شاطئ دجيل فظفر بالمدينة ، وابتنى مدينة سوق الأهواز ، وعاد إلى فارس بالغنائم ، ثم عاد من فارس إلى الأهواز على طريق جره وكازرون ، وقتل ملك ميسان ، وبنى هناك كرخ ميسان وعاد إلى فارس .
فأرسل إلى أردوان يؤذنه بالحرب ويقول له ليعين موضعا للقتال . فكتب إليه أردوان : إني أوافيك في صحراء هرمزجان لانسلاخ مهرماه . فوافاه أردشير قبل الوقت [ ص: 351 ] وخندق على نفسه واحتوى على الماء ، ووافاه أردوان وملك الأرمانيين ، وكانا يتحاربان على الملك فاصطلحا على أردشير وحارباه ، وهما متساندان يقاتله هذا يوما وهذا يوما ، فإذا كان يوم بابا ملك الأرمانيين لم يقم له أردشير ، وإذا كان يوم أردوان لم يقم لأردشير ، فصالح أردشير ملك الأرمانيين على أن يكف عنه ويفرغ أردشير لأردوان ، فلم يلبث أن قتله واستولى على ما كان له ، وأطاعه بابا وسمي أردشير : شاهنشاه .
ثم سار إلى همذان فافتتحها ، وإلى الجبل وأذربيجان وأرمينية والموصل ففتحها عنوة ، وسار إلى السواد من الموصل فملكه ، وبنى على شاطئ دجلة قبالة طيسفون ، وهي المدينة التي في شرق المدائن مدينة غريبة ، وسماها به أردشير ، وعاد من السواد إلى إصطخر ، وسار منها إلى سجستان ، ثم إلى جرجان ، ثم إلى نيسابور ومرو وبلخ وخوارزم ، وعاد إلى فارس ، ونزل جور فجاءه رسل ملك كوسان وملك طوران وملك مكران بالطاعة .
ثم سار من جور إلى البحرين ، فاضطر ملكها إلى أن رمى بنفسه من حصنه فهلك . وعاد إلى المدائن فتوج ابنه سابور بتاجه في حياته وبنى ثماني مدن ، منها : مدينة الخط بالبحرين ، ومدينة بهرسير مقابل المدائن . وكان اسمه به أردشير فعربت به سير ، وأردشير خرة ، هي مدينة فيروزاباذ ، سماها عضد الدولة بن بويه كذلك ، وبنى بكرمان مدينة أردشير على دجلة عند البصرة ، والبصريون يسمونها بهمن شير ، وفرات ميسان أيضا ، وبنى رامهرمز بخوزستان ، وبنى سوق الأهواز ، وبالموصل بودر أردشير ، وهي حزة .
ولم يزل محمود السيرة مظفرا منصورا لا ترد له راية ، ومدن المدن ، وكور الكور ، ورتب المراتب وعمر البلاد .
وكان ملكه من قتله أردوان إلى أن هلك أربع عشرة سنة ، وقيل : أربع عشرة سنة وعشرة أشهر .
ولما استولى أردشير على العراق كره كثير من تنوخ المقام في مملكته ، فخرج من كان منهم من قضاعة إلى الشام ، ودان له أهل الحيرة والأنبار ، وقد كانت الحيرة [ ص: 352 ] والأنبار بنيتا زمن بخت نصر ، فخربت الحيرة لتحول أهلها إلى الأنبار ، وعمرت الأنبار خمسمائة سنة وخمسين سنة إلى أن عمرت الحيرة زمن عمرو بن عدي ، فعمرت خمسمائة وبضعا وثلاثين سنة إلى أن وضعت الكوفة ونزلها أهل الإسلام .