وفي هذه السنة توفي المنصور لست خلون من ذي الحجة ببئر ميمون ، وكان على ما قيل قد هتف به هاتف من قصره ، فسمعه يقول :
أما ورب السكون والحرك إن المنايا كثيرة الشرك عليك ، يا نفس إن أسأت ، وإن
أحسنت بالقصد ، كل ذاك لك ما اختلف الليل والنهار ، ولا
دارت نجوم السماء في الفلك إلا تنقل السلطان عن ملك
إذا انتهى ملكه إلى ملك حتى يصيرا به إلى ملك
ما عز سلطانه بمشترك
ذاك بديع السماء والأرض وال مرسي الجبال المسخر الفلك
قال : وقد حكى الطبري أنه قال : دخلت على عبد العزيز بن مسلم المنصور يوما أسلم عليه ، فإذا هو باهت لا يحير جوابا ، فوثبت لما أرى منه لأنصرف ، فقال [ لي ] بعد ساعة إني رأيت في المنام كأن رجلا ينشدني هذه [ الأبيات ] :
أأخي خفض من مناكا فكأن يومك قد أتاكا
ولقد أراك الدهر من تصرفيه ما قد أراكا
فإذا أردت الناقص ال عبد الذليل ، فأنت ذاكا
ملكت ما ملكته والأمر فيه إلى سواكا
هذا الذي ترى من قلقي وغمي لما سمعت ورأيت ، فقلت : خيرا رأيت يا أمير المؤمنين ، فلم يلبث أن خرج إلى مكة .
فلما سار من بغداذ ليحج نزل قصر عبدويه ، فانقض في مقامه هنالك كوكب لثلاث بقين من شوال ، بعد إضاءة الفجر ، فبقي أثره بينا إلى طلوع الشمس ، فأحضر المهدي ، وكان قد صحبه ليودعه ، فوصاه بالمال والسلطان ، يفعل ذلك كل يوم من أيام مقامه ، بكرة وعشية ، فلما كان اليوم الذي ارتحل فيه قال له : إني لم أدع شيئا إلا وقد تقدمت إليك فيه ، وسأوصيك بخصال ما أظنك تفعل واحدة منها .
( وكان له سفط فيه دفاتر علمه ) ، وعليه قفل لا يفتحه غيره ، فقال للمهدي : انظر إلى هذا السفط فاحتفظ به ، فإن فيه علم آبائك ، ( ما كان ) وما هو كائن إلى يوم القيامة ، فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الكبير ، فإن أصبت فيه ما تريد ، وإلا ففي الثاني والثالث ، حتى بلغ سبعة ، فإن ثقل عليك ، فالكراسة الصغيرة ، فإنك واجد فيها ما تريد ، وما أظنك تفعل .
[ ص: 195 ] وانظر هذه المدينة ، وإياك أن تستبدل بها غيرها ، وقد جمعت لك فيها من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين كفاك لأرزاق الجند والنفقات ، والذرية ، ومصلحة البعوث ، فاحتفظ بها ، فإنك لا تزال عزيزا ما دام بيت مالك عامرا ، وما أظنك تفعل .
وأوصيك بأهل بيتك أن تظهر كرامتهم ، وتحسن إليهم ، وتقدمهم ، وتوطئ الناس أعقابهم ، وتوليهم المنابر ، فإن عزك عزهم ، وذكرهم لك ، وما أظنك تفعل .
وانظر مواليك فأحسن إليهم ، وقربهم ، واستكثر منهم ، فإنهم مادتك لشدة إن نزلت بك ، وما أظنك تفعل .
وأوصيك بأهل خراسان خيرا ، فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم ودماءهم في دولتك ، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم ، أن تحسن إليهم ، وتتجاوز عن مسيئهم ، وتكافئهم عما كان منهم ، وتخلف من مات منهم في أهله وولده ، وما أظنك تفعل .
وإياك أن تبني مدينة الشرقية ، فإنك لا تتم بناءها ، وأظنك ستفعل .
وإياك أن تستعين برجل من بني سليم ، وأظنك ستفعل .
وإياك أن تدخل النساء في أمرك ، وأظنك ستفعل .
وقيل : قال له : إني ولدت في ذي الحجة ، ووليت في ذي الحجة ، وقد هجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة من هذه السنة ، وإنما حداني على الحج ذلك ، فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي ، يجعل لك فيما كربك وحزنك فرجا ومخرجا ، ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب .
يا بني احفظ محمدا - صلى الله عليه وسلم - في أمته ، يحفظك الله ( ويحفظ ) عليك أمورك ، وإياك والدم والحرام ، فإنه حوب عند الله عظيم ، وعار في الدنيا لازم مقيم ، والزم الحدود ، فإن فيها خلاصك في الآجل وصلاحك في العاجل ، ولا تعتد فيها فتبور ، فإن الله تعالى لو علم أن شيئا أصلح منها لدينه وأزجر عن معاصيه لأمر به في كتابه .
[ ص: 196 ] واعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه [ أنه ] أمر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى في الأرض فسادا مع ما ذكر له من العذاب العظيم فقال : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا ) الآية .
فالسلطان ، يا بني حبل الله المتين ، وعروته الوثقى ، ودينه القيم ، فاحفظه ، وحصنه ، وذب عنه ، وأوقع بالملحدين فيه ، واقمع المارقين منه ، واقتل الخارجين عنه بالعقاب ، ولا تجاوز ما أمر الله به في محكم القرآن ، واحكم بالعدل ، ولا تشطط ، فإن ذلك أقطع للشغب ، وأحسم للعدو ، وأنجع في الدواء .
وعف عن الفيء ، فليس بك إليه حاجة مع ما خلفه الله لك ، وافتتح [ عملك ] بصلة الرحم وبر القرابة ، وإياك والأثرة والتبذير لأموال الرعية ، واشحن الثغور ، واضبط الأطراف ، وأمن السبل ، وسكن العامة ، وأدخل المرافق عليهم ، وادفع المكاره عنهم .
وأعد الأموال ، واخزنها ، وإياك والتبذير ، فإن النوائب غير مأمونة ، وهي من شيم الزمان .
وأعد الكراع والرجال والجند ما استطعت ، وإياك وتأخير عمل اليوم إلى الغد ، فتتدارك عليك الأمور وتضيع ، جد في إحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولا [ فأولا ] ، واجتهد وشمر فيها .
وأعد رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار ، ورجالا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل ، وباشر الأمور بنفسك ، ولا تضجر ، ولا تكسل ، واستعمل حسن الظن [ بربك ] ، وأسئ الظن بعمالك وكتابك .
وخذ نفسك بالتيقظ ، وتفقد من تثبت على بابك ، وسهل إذنك للناس ، وانظر في أمر النزاع إليك ، ووكل بهم عينا غير نائمة ، ونفسا غير لاهية ، ولا تنم ، وإياك ، فإن أباك لم ينم منذ ولي الخلافة ، ولا دخل عينه الغمض إلا وقلبه مستيقظ . هذه وصيتي إليك ، والله خليفتي عليك .
ثم ودعه وبكى كل واحد منهما إلى صاحبه ، ثم سار إلى الكوفة ، وجمع بين الحج والعمرة ، وساق الهدي ، وأشعره ، وقلده لأيام خلت من ذي القعدة .
[ ص: 197 ] فلما سار منازل من الكوفة عرض له وجعه الذي مات به وهو القيام ، فلما اشتد وجعه جعل يقول للربيع : بادرني حرم ربي هاربا من ذنوبي ، وكان الربيع عديله ، ووصاه بما أراد .
فلما وصل إلى بئر ميمون مات بها مع السحر لست خلون من ذي الحجة ، ولم يحضره عند وفاته إلا خدمه ، والربيع مولاه ، فكتم الربيع موته ، ومنع من البكاء عليه ، ثم أصبح ، فحضر أهل بيته كما كانوا يحضرون .
وكان أول من دعا عمه ، فمكث ساعة ، ثم أذن ( لابن أخيه عيسى بن علي وكان فيما خلا يقدم على عيسى ) بن موسى ، ثم أذن للأكابر وذوي الأسنان منهم ، ثم لعامتهم ، فبايعهم عيسى بن علي الربيع للمهدي ، ولعيسى بن موسى بعده على يدي موسى الهادي بن المهدي .
فلما فرغ من بيعة بني هاشم بايع القواد ، وبايع عامة الناس ، وسار العباس بن محمد إلى ومحمد بن سليمان مكة ليبايعا الناس ، فبايعوا بين الركن والمقام .
واشتغلوا بتجهيز المنصور ، ففرغوا منه العصر ، وكفن وغطي وجهه وبدنه ، وجعل رأسه مكشوفا لأجل إحرامه ، وصلى عليه ، وقيل عيسى بن موسى إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، ودفن في مقبرة المعلاة ، وحفروا له مائة قبر ليغموا على الناس ، ودفن في غيرها ، ونزل في قبره ، عيسى بن علي وعيسى بن محمد ، والعباس بن محمد ، والربيع والريان مولياه ، ويقطين .
وكان عمره ثلاثا وستين سنة ، وقيل أربعا وستين ، وقيل ثمانيا وستين سنة ، فكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا أربعة وعشرين يوما ، وقيل إلا ثلاثة أيام ، وقيل إلا يومين .
وقيل في موته : إنه لما نزل آخر منزل بطريق مكة نظر في صدر البيت ، فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم
أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت سنوك ، وأمر الله لابد واقع
أبا جعفر هل كاهن أو منجم لك اليوم من حر المنية مانع
فأحضر متولي المنازل ، وقال له : ألم آمرك أن لا يدخل المنازل أحد من الناس ؟ قال : والله ما دخلها أحد منذ فرغ [ منها ] .
فقال : اقرأ ما في صدر البيت ! فقال : ما أرى شيئا ، فأحضر غيره ، فلم ير شيئا ، فأملى البيتين ، ثم قال لحاجبه : اقرأ آية ، فقرأ : ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) . فأمر به فضرب ، ورحل من المنزل تطيرا ، فسقط عن دابته ، فاندق ظهره ومات ، فدفن ببئر ميمون . والصحيح ما تقدم .