كان المهدي ، إذا جلس للمظالم ، قال : أدخلوا علي القضاة ، فلو لم يكن ردي المظالم إلا للحياء منهم [ لكفى ] .
[ ص: 255 ] وعتب المهدي على بعض القواد غير مرة وقال له في آخر ذلك : إلى متى تذنب [ إلي وأعفو ] ؟ قال : إلى أبد نسيء ، ويبقيك الله فتعفو عنا ، فاستحيا منه ورضي عنه .
وقال مسور بن مساور : ظلمني وكيل المهدي ، وغصبني ضيعة لي ، فكتبت إلى المهدي أتظلم ، فوصلت الرقعة وعنده عمه العباس ، ، ومحمد بن علاثة وعافية القاضي ، فاستدناني المهدي ، وسألني عن حالي ، فذكرته ، فقال : أترضى بأحد هذين ؟ قلت : نعم ! فاستدناني حتى التزقت بالفراش ، وحاكمني ، فقال له القاضي : أطلقها له يا أمير المؤمنين ! قال : قد فعلت ، فقال عمه العباس : والله لهذا المجلس أحب إلي من عشرين ألف ألف درهم .
وخرج المهدي متنزها ، ومعه عمر بن ربيع مولاه ، فانقطعا في الصيد من العسكر ، وأصاب المهدي جوع ، فقال : هل من شيء ؟ فقيل له : نرى كوخا ، فقصدوه ، فإذا فيه نبطي ، وعنده مبقلة ، فسلموا عليه ، فرد السلام ، فقالوا : هل من طعام ؟ فقال : عندي ربيثاء ، وهو نوع من الصحناة ، وعندي خبز شعير ، فقال المهدي : ( إن كان عندك زيت ، فقد أكملت . قال : نعم ، وكراث ، فأتاهما بذلك ، فأكلا حتى شبعا . فقال المهدي ) لعمر بن ربيع : قل في هذا شعرا ، فقال :
إن من يطعم الربيثاء بالزيت وخبز الشعير بالكراث لحقيق بصفعة أو بثنتين
لسوء الصنيع أو بثلاث
لحقيق ببدرة أو بثنتين لحسن الصنيع أو بثلاث
قال : ووافاهم العسكر ، والخزائن ، والخدم ، فأمر للنبطي بثلاث بدر وانصرف .
وقال الحسن الوصيف : أصابتنا ريح شديدة أيام المهدي ، حتى ظننا أنها تسوقنا إلى [ ص: 256 ] المحشر ، فخرجت أطلب المهدي ، فوجدته واضعا خده على الأرض وهو يقول : اللهم احفظ محمدا في أمته ! اللهم لا تشمت بنا أعداءنا من الأمم ! اللهم إن كنت أخذت هذا العالم بذنبي ، فهذه ناصيتي بين يديك . قال : فما لبثنا إلا يسيرا حتى انكشفت الريح . ( وزال عنا ) ما كنا فيه .
ولما حضرت القاسم بن مجاشع التميمي المروزي الوفاة أوصى إلى المهدي فكتب : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم ) الآية ، ثم كتب : والقاسم يشهد بذلك ، ويشهد أن محمدا عبده ورسوله وأن وصي رسول الله ، ووارث الإمامة من بعده ، فعرضت الوصية على علي بن أبي طالب المهدي بعد موته ، فلما بلغ إلى هذا الموضع رمى بها ، ولم ينظر فيها .
وقال الربيع : رأيت المهدي يصلي في بهو له في ليلة مقمرة ، فما أدري أهو أحسن أم البهو أم القمر أم ثيابه ، فقرأ : ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ) .
قال : فتمم صلاته ، ثم التفت وقال : يا ربيع ! قلت : لبيك ! قال : [ علي ] بموسى ، فقلت في نفسي : من موسى ؟ ابنه أم موسى بن جعفر ، وكان محبوسا عندي ؟ فجعلت أفكر ، فقلت : ما هو إلا موسى بن جعفر ، فأحضرته ، فقطع صلاته ، ثم قال : يا موسى ! إني قرأت هذه الآية ، فخفت أن أكون قد قطعت رحمك ، فوثق لي أنك لا تخرج [ علي ] . قال : نعم ، فوثق له فخلاه .
وقال محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب : رأيت فيما يرى النائم ، في آخر سلطان بني أمية ، كأني دخلت مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفعت رأسي ، فنظرت في الكتاب الذي في المسجد بالفسيفساء ، فإذا فيه : مما أمر به ، وإذا قائل يقول : يمحو هذا الكتاب ويكتب اسمه رجل من أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك بني هاشم [ ص: 257 ] يقال له محمد ، قلت : فأنا من بني هاشم ، واسمي محمد فابن من ؟ قال : ابن عبد الله . قال : قلت : فأنا ابن عبد الله ، فابن من ؟ قال : ابن محمد . قلت : فأنا ابن محمد ، فابن من ؟ قال : ابن علي ، قلت : فأنا ابن علي ، فابن من ؟ قال : ابن عبد الله . قلت : فأنا ابن عبد الله ، فابن من ؟ قال : ، فلو لم يبلغ ابن عباس العباس ما شككت أني صاحب الأمر .
قال : فتحدثت بها ذلك الزمان ، ونحن لا نعرف المهدي ، حتى ولي المهدي ، فدخل مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع رأسه ، فرأى اسم الوليد ، فقال : أرى اسم الوليد إلى اليوم ، فدعا بكرسي ، فألقي في صحن المسجد ، وقال : ما أنا ببارح حتى يمحى ويكتب اسمي مكانه ، ففعل ذلك ، وهو جالس .
وخرج المهدي يطوف بالبيت ليلا ، فسمع أعرابية تقول : قومي مقترون ، نبت عنهم العيون ، وفدحتهم الديون ، وعضتهم السنون ، بادت رجالهم ، وذهبت أموالهم ، وكثرت عيالهم ، أبناء سبيل ، وأنضاء طريق ، وصية الله ، ووصية الرسول ، فهل من آمر لي بخير ، كلأه الله في سفره ، وخلفه في أهله ! قال : فأمر لها بخمسمائة درهم .
وقال المهدي : ما توسل أحد إلي بوسيلة هي أقرب من تذكيري يدا سلفت مني إليه أتبعها أختها ، وأحسن ربها ، فإن منع الأواخر يقطع شكر الأوائل .
وكان قد هجا بشار بن برد صالح بن داود ، أخا يعقوب ، حين ولي ، فقال :
هم حملوا فوق المنابر صالحا أخاك فضجت من أخيك المنابر
خليفة يزني بعماته يلعب بالدبوق والصولجان
أبدلنا الله به غيره ودس موسى في حر الخيزران
فوجه في حمله ، فخاف يعقوب أن يقدم على المهدي فيمدحه فيعفو عنه ، فوجه إليه من يلقيه في البطيحة في الخرارة .
وماتت الياقوتة بنت المهدي ، وكان معجبا بها لا يطيق الصبر عنها ، حتى إنه كان [ ص: 258 ] يلبسها لبسة الغلمان ، ويركبها معه ، فلما ماتت وجد عليها ، وأمر أن لا يحجب عنه أحد ، فدخل الناس يعزونه .
وأجمعوا على أنهم لم يسمعوا تعزية أبلغ ولا أوجز من تعزية شبيب بن شيبة ، فإنه قال : يا أمير المؤمنين ! ما عند الله خير لها منك ، وثواب الله خير لك منها ، وأنا أسأل الله أن لا يحزنك ، ولا يفتنك ، وأن يعطيك على ما رزئت أجرا ، ويعقبك صبرا ، ولا يجهد لك بلاء ، ولا ينزع منك نعمة ، وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل إلى رده .