ذكر بقرطبة وقعة الربض
في هذه السنة كانت بقرطبة الوقعة المعروفة بالربض ، وسببها أن ، صاحبها ، كان كثير التشاغل باللهو والصيد والشرب ، وغير ذلك مما يجانسه ، وكان قد قتل جماعة من أعيان الحكم بن هشام الأموي قرطبة ، فكرهه أهلها ، وصاروا يتعرضون لجنده بالأذى والسب ، إلى أن بلغ الأمر بالغوغاء أنهم كانوا ينادون عند انقضاء الأذان : " الصلاة يا مخمور الصلاة " ، وشافهه بعضهم بالقول ، وصفقوا عليه بالأكف ، فشرع في تحصين قرطبة وعمارة أسوارها ، وحفر خنادقها ، وارتبط الخيل على بابه ، واستكثر المماليك ، ورتب جمعا لا يفارقون باب قصره بالسلاح ، فزاد ذلك في حقد أهل قرطبة ، وتيقنوا أنه يفعل ذلك للانتقام منهم .
ثم وضع عليهم عشر الأطعمة كل سنة ، من غير حرص ، فكرهوا ذلك ، ثم عمد إلى عشرة من رؤساء سفهائهم ، فقتلهم وصلبهم ، فهاج لذلك أهل الربض ، وانضاف إلى ذلك أن مملوكا له سلم سيفا إلى صيقل ليصقله ، فمطله ، فأخذ المملوك السيف ، فلم يزل يضرب الصيقل به إلى أن قتله ، وذلك في رمضان من هذه السنة .
فكان أول من شهر السلاح أهل الربض ، واجتمع أهل الأرباض جميعهم بالسلاح ، واجتمع الجند والأمويون والعبيد بالقصر ، وفرق الحكم الخيل والأسلحة ، وجعل [ ص: 462 ] أصحابه كتائب ، ووقع القتال بين الطائفتين فغلبهم أهل الربض ، وأحاطوا بقصره ، فنزل الحكم من أعلى القصر ، ولبس سلاحه ، وركب وحرض الناس ، فقاتلوا بين يديه قتالا شديدا .
ثم أمر ابن عمه عبيد الله ، فثلم في السور ثلمة ، وخرج منها ومعه قطعة من الجيش ، وأتى أهل الربض من وراء ظهورهم ، ولم يعلموا بهم ، فأضرموا النار في الربض ، وانهزم أهله ، وقتلوا مقتلة عظيمة ، وأخرجوا من وجدوا في المنازل والدور ، فأسروهم ، فانتقى من الأسرى ثلاثمائة من وجوههم ، فقتلهم ، وصلبهم منكسين ، وأقام النهب والقتل والحريق والخراب في أرباض قرطبة ثلاثة أيام .
ثم استشار الحكم عبد الكريم بن عبد الواحد بن عبد المغيث ، ولم يكن عنده من يوازيه في قربه ، فأشار عليه بالصفح عنهم والعفو ، وأشار غيره بالقتل ، فقبل قوله ، وأمر فنودي بالأمان على أنه من بقي من أهل الربض بعد ثلاثة أيام قتلناه وصلبناه ، فخرج من بقي بعد ذلك منهم مستخفيا ، وتحملوا على الصعب والذلول خارجين من حضرة قرطبة بنسائهم وأولادهم ، وما خف من أموالهم ، وقعد لهم الجند والفسقة بالمراصد ينهبون ، ومن امتنع عليهم قتلوه .
فلما انقضت الأيام الثلاثة أمر الحكم بكف الأيدي عن حرم الناس ، وجمعهن إلى مكان ، وأمر بهدم الربض القبلي .
وكان بزيع مولى أمية ابن الأمير عبد الرحمن بن معاوية بن هشام محبوسا في حبس الدم بقرطبة ، في رجليه قيد ثقيل ، فلما رأى أهل قرطبة قد غلبوا الجند ، سأل الحرس أن يفرجوا له ، فأخذوا عليه العهود إن سلم أن يعود إليهم ، وأطلقوه ، فخرج فقاتل قتالا شديدا لم يكن في الجيش مثله ، فلما انهزم أهل الربض عاد إلى السجن ، فانتهى خبره إلى الحكم ، فأطلقه وأحسن إليه ، ( وقد ذكر بعضهم هذه الوقعة سنة اثنتين ومائتين ) .