ذكر مرض   المأمون  ووصيته  
وفي هذه السنة مرض   المأمون  مرضه الذي مات فيه لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة . 
وكان سبب مرضه ما ذكره  سعد بن العلاف القارئ  قال : دعاني   المأمون   [ ص: 577 ] يوما ، فوجدته جالسا على جانب البذندون ،  والمعتصم  عن يمينه ، وهما قد دليا أرجلهما في الماء ، فأمرني أن أضع رجلي في الماء ، وقال : ذقه ! فهل رأيت أعذب منه ، أو أصفى صفاء ، أو أشد بردا ؟ ففعلت ، وقلت : يا أمير المؤمنين ، ما رأيت مثله قط . فقال : أي شيء يطيب أن يؤكل ويشرب عليه هذا الماء ؟ فقلت : أمير المؤمنين أعلم . فقال : الرطب الآزاذ . 
فبينما هو يقول [ هذا ] إذ سمع وقع لجم البريد ، فالتفت ، فإذا بغال البريد عليها الحقائب فيها الألطاف ، فقال لخادم [ له ] : انظر إن كان في هذه الألطاف رطب آزاذ ، فأت به ! فمضى وعاد ومعه سلتان فيهما آزاذ كأنما جني تلك الساعة ، فأظهر شكرا لله - تعالى - وتعجبنا جميعا ، وأكلنا وشربنا من ذلك الماء ، فما قام منا أحد إلا وهو محموم ، وكانت منية   المأمون  من تلك العلة ، ولم يزل  المعتصم  مريضا حتى دخل العراق  ، وبقيت أنا مريضا مدة . 
فلما مرض   المأمون  أمر أن يكتب إلى البلاد الكتب من   عبد الله المأمون  أمير المؤمنين ، وأخيه الخليفة من بعده  أبي إسحاق بن هارون الرشيد  ، وأوصى إلى  المعتصم  بحضرة ابنه  العباس  ، وبحضرة الفقهاء ، والقضاة ، والقواد ، وكانت وصيته ، بعد الشهادة ، والإقرار بالوحدانية ، والبعث ، والجنة ، والنار ، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء - : إني مقر مذنب ، أرجو وأخاف ، إلا أني إذا ذكرت عفو الله رجوت ، وإذا مت فوجهوني ، وغمضوني ، وأسبغوا وضوئي وطهوري ، وأجيدوا كفني ، ثم أكثروا حمد الله على الإسلام ومعرفة حقه عليكم في محمد    - صلى الله عليه وسلم - إذ جعلنا من أمته المرحومة ، ثم أضجعوني على سريري ، ثم عجلوا بي ، وليصل علي أقربكم نسبا وأكبركم سنا ، وليكبر خمسا ، ثم احملوني وابلغوا بي حفرتي ، ولينزل بي أقربكم قرابة ، وأودكم محبة . 
وأكثروا من حمد الله وذكره ، ثم ضعوني على شقي الأيمن ، واستقبلوا بي القبلة ، ثم حلوا كفني عن رأسي ورجلي ، ثم سدوا اللحد واخرجوا عني ، وخلوني وعملي ، وكلكم لا يغني عني شيئا ، ولا يدفع عني مكروها ، ثم قفوا بأجمعكم ، فقولوا خيرا إن علمتم ، وأمسكوا عن ذكر شر إن كنتم عرفتم ، فإني مأخوذ من بينكم بما تقولون ، ولا تدعوا باكية عندي ، فإن المعول عليه يعذب ، رحم الله عبدا اتعظ وفكر فيما حتم الله على خلقه   [ ص: 578 ] من الفناء ، وقضى عليهم من الموت الذي لا بد منه ، فالحمد لله الذي توحد بالبقاء ، وقضى على جميع خلقه الفناء . 
[ ثم ] لينظر ما كنت فيه من عز الخلافة ، هل أغنى عني ذلك شيئا إذ جاء أمر الله ؟ لا والله ، ولكن أضعف علي به الحساب ، فياليت  عبد الله بن هارون  لم يكن بشرا ، بل ليته لم يكن خلقا . 
يا  أبا إسحاق  ، ادن مني ، واتعظ بما ترى ، وخذ بسيرة أخيك في القرآن والإسلام ، واعمل في الخلافة إذا طوقكها الله عمل المريد لله ، الخائف من عقابه وعذابه ، ولا تغتر بالله ومهلته ، فكأن قد نزل بك الموت ، ولا تغفل أمر الرعية والعوام ، فإن الملك بهم وبتعهدك لهم ، الله الله فيهم ، وفي غيرهم من المسلمين ، ولا ينتهين إليك أمر فيه صلاح للمسلمين ومنفعة إلا قدمته ، وآثرته على غيره من هواك . 
وخذ من أقويائهم لضعفائهم ، ولا تحمل عليهم في شيء ، وأنصف بعضهم من بعض بالحق بينهم ، وقربهم ، وتأن بهم ، وعجل الرحلة عني ، والقدوم إلى دار ملكك بالعراق  ، وانظر هؤلاء القوم الذين أنت بساحتهم ، فلا تغفل عنهم في كل وقت ، والخرمية  فأغزهم ذا حزامة وصرامة وجلد ، واكنفه بالأموال والجنود ، فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك [ من ] أنصارك وأوليائك ، واعمل في ذلك عمل مقدم النية فيه ، راجيا ثواب الله عليه . 
ثم دعا  المعتصم  ، بعد ساعة ، حين اشتد الوجع ، وأحس بمجيء أمر الله فقال : يا  أبا إسحاق     ! عليه عهد الله وميثاقه ، وذمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتقومن بحق الله في عباده ، ولتؤثرن طاعة الله على معصيته إذ أنا نقلتها من غيرك إليك . قال : اللهم نعم ! قال : هؤلاء بنو عمك من ولد أمير المؤمنين  علي     - صلوات الله عليه - فأحسن صحبتهم ، وتجاوز عن مسيئهم ، واقبل من محسنهم ، ولا تغفل صلاتهم في كل سنة عند محلها ، فإن حقوقهم تجب من وجوه شتى ، اتقوا الله ربكم حق تقاته ، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، اتقوا الله واعملوا له ، واتقوا الله في أموركم كلها ، أستودعكم الله ونفسي ،   [ ص: 579 ] وأستغفر الله ما سلف مني إنه كان غفارا ، فإنه ليعلم كيف ندمي على ذنوبي ، فعليه توكلت من عظيمها ، وإليه أنيب ، ولا قوة إلا بالله ، حسبي الله ونعم الوكيل ، وصلى الله على محمد نبي الهدى والرحمة . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					