ذكر بابك في هذه السنة محاربة
في هذه السنة واقع بابك بغا الكبير ، فهزمه ، وواقعه الأفشين ، فهزم بابك .
وكان سبب ذلك أن بغا الكبير كان قد قدم بالمال الذي كان معه إلى الأفشين ، ففرقه في أصحابه ، وتجهز بعد النيروز ، ووجه إلى بغا في عسكر ليدور حول هشتادسر ، وينزل في خندق ، ويحفره ، ويحكمه ، فسار محمد بن حميد بغا إلى الخندق ، ورحل الأفشين من برزند ، ورحل أبو سعيد من خش يريدان بابك ، فتوافوا بمكان يقال له : دروذ ، فحفر الأفشين خندقا ، وبنى عليه سورا ، وكان بينه وبين البذ ستة أميال .
ثم إن بغا تجهز ( بغير أمر الأفشين ) ، وحمل معه الزاد ، ودار حول هشتادسر ، حتى دخل قرية البذ ، فنزلها فأقام بها ، ثم وجه ألف رجل في علافة له ، فخرج عليهم بعض عساكر بابك ، فأخذ العلافة ، وقتل كل من كان قاتله ، وأسر من قدر عليه ، وأخذ بعضهم ، فأرسل منهم رجلين إلى الأفشين يعلمانه ما نزل بهم .
ورجع بغا إلى خندق تشبيها بالمنهزم ، وكتب إلى محمد بن حميد الأفشين يعلمه ذلك ، ويسأله المدد ، فوجه إليه الأفشين أخاه الفضل ، وأحمد بن الخليل بن هشام ، وابن جوشن ، وجناحا الأعور ، صاحب شرطة الحسن بن سهل ، وأحد الأخوين قرابة ، فأتوا الفضل بن سهل بغا ، وكتب الأفشين إلى بغا يعلمه أن يغزو بابك في يوم عينه له ، ويأمره أن يغزو في ذلك اليوم بعينه ، فيحاربه من الوجهين ، فخرج الأفشين ذلك اليوم من دروذ يريد بابك ، وخرج بغا من خندقه ، فخرج إلى هشتادسر ، فلم يكن للناس صبر [ ص: 20 ] لشدة البرد والريح ، فانصرف إلى عسكره ، فعسكر على دعوة ، وهاجت ريح باردة ومطر شديد ، فرجع بغا إلى عسكره ، وواقعهم الأفشين من الغد ، بعد رجوع بغا ، فهزم أصحاب بابك ، وأخذ عسكره وخيمته وامرأة كانت معه ، ونزل الأفشين في معسكر ( بابك . ثم تجهز بغا من الغد ، وصعد إلى هشتادسر ، فأصاب العسكر ) [ الذي ] كان بإزائه قد انصرف إلى بابك ، فأصاب من أثاثهم ورحلهم شيئا ، وانحدر من هشتادسر يريد البذ ، وعلى مقدمته داود سياه ، فأرسل إليه بغا : إن المساء قد أدركنا ، وقد تعب الرجالة ، وتوسطنا المكان الذي قد نعرفه ، فانظر جبلا حصينا حتى نعسكر فيه ليلتنا هذه ، فصعد بهم إلى جبل أشرفوا منه على عسكر الأفشين ، فقالوا : نبيت ها هنا إلى غدوة ، وننحدر إلى الكافر إن شاء الله تعالى .
فجاءهم تلك الليلة سحاب وبرد ، وثلج كثير ، فأصبحوا ولا يقدر أحد منهم [ أن ] ينزل فيأخذ ماء ، ولا يسقي دابته من شدة البرد ، واشتد عليه الثلج والضباب ، فلما كان اليوم الثالث قال الناس لبغا : قد فني ما معنا من الزاد ، ( وقد أضر بنا البرد ) ، فانزل على أي حالة كانت ، إما راجعين ، وإما إلى الكافر .
وكان بابك في أيام الضباب والثلج قد بيت الأفشين وبعض عسكره ، وانصرف الأفشين إلى عسكره ، فضرب بغا الطبل وانحدر يريد البذ ، ولا يعلم بما تم للأفشين بل يظنه في موضع عسكره ، فلما نزل إلى بطن الوادي رأى السماء منجلية ، ( والدنيا طيبة ، غير رأس الجبل الذي كان عليه ، فعبأ أصحابه ) ، وتقدم إلى البذ ، حتى صار بحيث يلزق جبل البذ ، ولم يبق بينه وبين أن يشرف على أبيات البذ إلا صعود نصف ميل .
وكان على مقدمته جماعة فيهم غلام لابن البعيث ، له قرابة بالبذ ، فلقيهم طلائع بابك ، فعرف بعضهم الغلام ، فسأله ( عم له ) عمن معه من أهله ، فأخبره ، فقال له : ارجع وقل لمن تعنى به ينتحي ، فإنا قد هزمنا الأفشين ، ومضى إلى خندقه ، وتهيأنا لكم عسكرين ، فعجل الانصراف لعلك تفلت .
[ ص: 21 ] فرجع الغلام فأخبر ابن البعيث ، فأخبر بغا بذلك ، فشاور أصحابه ، فقال بعضهم : هذا باطل ، هذه خدعة . وقال بعضهم : هذا رأس جبل ينظر إلى عسكر الأفشين ، فصعد بغا ، ومعه نفر ، إلى رأس الجبل ، فلم يروا عسكر الأفشين ، فتيقن أنه مضى ، وتشاوروا ، فرأوا أن ينصرف الناس قبل أن يجيئهم الليل ، فانصرفوا ، وجدوا في السير ، ولم يقصد الطريق الذي دخل منه لكثرة مضايقه ، بل أخذ طريقا يدور حول هشتادسر ليس فيه غير مضيق واحد ، فطرح الرجالة سلاحهم في الطريق ، وخافوا ، وصار بغا وجماعة القواد في الساقة ، وطلائع بابك تتبعهم ، وهم قدر عشرة فرسان ، فشاور بغا أصحابه ، وقال : لا آمن أن يكون هؤلاء مشغلة لنا عن المسير ، وتقدم أصحابهم ليأخذوا المضيق علينا ، فقال له الفضل : إن هؤلاء أصحاب الليل ، فأسرع السير ، ولا تنزل حتى تجاوز المضيق . وقال غيره : إن العسكر قد تقطع وقد رموا سلاحهم ، وقد بقي المال والسلاح على البغال ليس معه أحد ، ولا نأمن أن يؤخذ ، ويؤخذ الأسير الذي معهم .
وكان ابن جويدان معهم أسيرا يريدون أن يفادوا به ، فعسكر على رأس جبل حصين ، ونزل الناس وقد كلوا وتعبوا ، وفنيت أزوادهم ، فباتوا يتحارسون من ناحية المصعد ، فأتاهم بابك من الناحية الأخرى ، فكبسوا بغا والعسكر ، وخرج بغا راجلا ، فرأى دابة فركبها ، وجرح الفضل بن كاوس ، وقتل جناح السكري وابن جوشن ، وأخذ [ أحد ] الأخوين قرابة ، ونجا الفضل بن سهل بغا والناس ولم تتبعهم الخرمية ، وأخذوا المال والسلاح والأسير ، فوصل الناس معسكرهم منقطعين إلى خندقهم ، فأقام بغا به خمسة عشر يوما ، وكتب إليه الأفشين يأمره بالرجوع إلى مراغة ، وأن يرسل إليه المدد ، فمضى بغا إلى مراغة ، وفرق الأفشين الناس في مشاتيهم تلك السنة ، حتى جاء الربيع .
وفيها قتل طرخان ، وهو من أكبر قواد بابك ، وكان سبب قتله أنه طلب من بابك إذنا حتى يشتي في قريته ، وهي بناحية مراغة ، وكان الأفشين يرصده ، فلما علم خبره أرسل إلى ترك مولى إسحاق بن إبراهيم ، وهو بمراغة ، يأمره أن يسري إليه في قريته حتى يقتله ، أو يأخذه أسيرا ، ففعل ترك ذلك وأسرى إليه وقتله ، وأخذ رأسه فبعثه إلى الأفشين .