ذكر البذ وأسر بابك فتح
وفي هذه السنة فتحت البذ ، مدينة بابك ، ودخلها المسلمون وخربوها ، واستباحوها ، ( وذلك لعشر بقين من شهر رمضان ) .
وكان سبب ذلك أن الأفشين لما عزم على الدنو من البذ ، والرحيل من كلان روذ ، جعل يتقدم قليلا قليلا خلاف ما تقدم ، وكتب إليه المعتصم يأمره أن يجعل الناس نوائب ، يقفون على ظهور الخيل نوبا في الليل ، مخافة البيات ، فضج الناس من التعب ، وقالوا : بيننا وبين العدو أربعة فراسخ ، ونحن نفعل أفعالا كأن العدو بإزائنا ، قد استحيينا من الناس ، أقدم بنا ، فإما لنا وإما علينا .
فقال : أعلم أن قولكم حق ، ولكن أمير المؤمنين أمرني بهذا ، فلم يلبث أن جاءه كتاب المعتصم يأمره أن يفعل كما كان يفعل ، فلم يزل كذلك أياما ، ثم انحدر حتى نزل روذ الروذ ، وتقدم حتى شارف الموضع الذي كانت به الوقعة في العام الماضي ، فوجد عليه كردوسا من الخرمية ، فلم يحاربهم ، ولم يزل إلى الظهر ، ثم رجع إلى معسكره فمكث يومين ، ثم عاد في أكثر من الذين كانوا معهم ، ولم يقاتلهم ، وأقام الأفشين بروذ الروذ ، وأمر الكوهبانية ، وهم أصحاب الأخبار ، أن ينظروا له في رؤوس الجبال مواضع يتحصن فيها الرجالة .
فاختاروا له ثلاثة أجبل كان عليها حصون فخربت ، فأخذ معه الفعلة ، وسار نحو هذه الجبال ، وأخذ معه الكعك والسويق ، وأمر الفعلة بنقل الحجارة ، وسد الطريق إلى [ ص: 26 ] تلك الجبال ، حتى صارت كالحصون ، وأمر بحفر [ خندق ] على كل طريق وراء تلك الحجارة ، ولم يترك مسلكا إلى الجبال منها إلا مسلكا واحدا ، ففرغ من الذي أراد من حفر الخنادق في عشرة أيام ، وهو والناس يحرسون الفعلة والرجالة ليلا ونهارا .
فلما فرغ منها أدخل الرجالة إليها ، وأنفذ إليه بابك رسولا ومعه قثاء ، وبطيخ ، وخيار ، ويعلمه أنه قد تعب وشقي من أكل الكعك ، وأننا في عيش رغد ، فقبل ذلك منه ، وقال : قد عرفت ما أراد أخي ، وأصعد الرسول ، فأراه ما عمل ، وأطاف به خنادقه كلها ، وقال : اذهب فعرفه ما رأيت .
وكان جماعة من الخرمية يأتون إلى قرب خندق الأفشين ، فيصيحون ، فلم يترك الأفشين أحدا يخرج إليهم ، فعلوا ذلك ثلاثة أيام ، ثم إن الأفشين كمن لهم كمينا ، فلما جاؤوا ثاروا عليهم ، فهربوا ولم يعودوا .
وعبأ الأفشين أصحابه ، وأمر كلا منهم بلزوم موضعه ، وكان يركب ، والناس في مواقفهم ، فكان يصلي الصبح بغلس ، ثم يضرب الطبول ( ويسير زحفا ، وكانت علامته في المسير والوقوف ضرب الطبول ) : لكثرة الناس ، ومسيرهم في الجبال والأودية على مصافهم ، فإذا سار ضربها ، وإذا وقف أمسك عن ضربها ، فيقف الناس جميعا ، ويسيرون جميعا .
وكان يسير قليلا قليلا كلما جاءه كوهباني بخبر سار ، أو وقف ، وكان إذا أراد أن يتقدم إلى المكان الذي كانت به الوقعة عام أول ، خلف بخاراخذاه على رأس العقبة في ألف فارس ، وستمائة راجل ، يحفظون الطريق لئلا يأخذه الخرمية عليهم .
وكان بابك إذا أحس بمجيئهم وجه جمعا من أصحابه ، فيكمنون في واد ( تحت تلك العقبة ) ، تحت بخاراخذاه ، واجتهد الأفشين أن يعرف مكان كمين بابك ، فلم يعلم بهم ، وكان يأمر أبا سعيد ( أن يعبر الوادي في كردوس ، ويأمر جعفرا الخياط أن يعبر في كردوس ) ، ويأمر أحمد بن الخليل بن هشام أن يعبر في كردوس آخر ، فيصير في ذلك الجانب ثلاثة كراديس في طرف أبياتهم ، وكان بابك يخرج عسكره فيقف بإزاء هذه الكراديس ، لئلا يتقدم منهم أحد إلى باب البذ ، وكان يفرق عساكره كمينا ، ولم يبق إلا في نفر يسير .
[ ص: 27 ] وكان الأفشين يجلس على تل مشرف ينظر إلى قصر بابك ، والناس كراديس ، فمن كان معه من هذا الجانب من الوادي نزل عن دابته ، ومن كان من ذلك الجانب مع أبي سعيد وجعفر وأحمد بن الخليل لم ينزل لقربه من العدو ، وكان بابك وأصحابه يشربون الخمر ، ويضربون بالسرنائي ، فإذا صلى الأفشين الظهر رجع إلى خندقه بروذ الروذ ، فكان يرجع أولا أقربهم إلى العدو ، ثم الذي يليه ، ثم الذي يليه ، فكان آخر من يرجع بخاراخذاه لأنه كان أبعدهم عن العدو ، فإذا رجعوا صاح بهم الخرمية .
فلما كان في بعض الأيام ضجرت الخرمية من المطاولة ، وانصرف الأفشين كعادته ، وعادت الكراديس التي بذلك الجانب من الوادي ، ولم يبق إلا جعفر الخياط ، ففتح الخرمية باب البذ ، وخرج منهم جماعة على أصحاب جعفر ، وارتفعت الصيحة في العسكر ، فتقدم جعفر بنفسه ، فرد أولئك الخرمية إلى باب البذ ، ووقعت الصيحة في العسكر ، فرجع الأفشين فرأى جعفرا وأصحابه يقاتلون ، وخرج من الفريقين جماعة ، وجلس الأفشين في مكانه ، وهو يتلظى على جعفر ، ويقول : أفسد علي تعبيتي .
وارتفعت الصيحة ، فكان مع أبي دلف قوم من المتطوعة ، فعبروا إلى جعفر بغير أمر الأفشين ، وتعلقوا بالبذ ، وأثروا فيه أثرا ، وكادوا يصعدونه ، فيدخلون البذ ، ووجه جعفر إلى الأفشين أن أمدني بخمس مائة راجل من الناشبة ، فإني أرجو أن أدخل البذ إن شاء الله تعالى ، فبعث إليه الأفشين : إنك أفسدت علي أمري ، فتخلص قليلا قليلا ، وخلص أصحابك وانصرف ، وارتفعت الصيحة من المتطوعة ، حتى تعلقوا بالبذ ، وظن الكمناء الذين لبابك أن الحرب قد اشتبكت ، فوثب بعضهم من تحت بخاراخذاه ووثب بعضهم من ناحية أخرى ، فتحركت الكمناء من الخرمية ، والناس على رؤوسهم ، فلم يزل منهم أحد ، فقال الأفشين : الحمد لله الذي بين مواضع هؤلاء .
ورجع جعفر وأصحابه والمتطوعة ، فجاء جعفر إلى الأفشين ، فأنكر عليه حيث لم يمده ، وجرى بينهما نفرة شديدة ، وجاء رجل من المتطوعة ، ومعه صخرة ، فقال للأفشين : أتردنا وهذا الحجر أخذته من السور ؟ فقال : إذا انصرفت عرفت من على [ ص: 28 ] طريقك ، يعني الكمين الذي عند بخاراخذاه . وقال لجعفر : لو ثار هذا الكمين الذي تحتك كيف كنت ترى هؤلاء المتطوعة ؟ !
ثم رجع هو وأصحابه على عادتهم ، فلما رأى هؤلاء الكمين الذي عند بخاراخذاه علموا ما كان وراءهم ، فإن بخاراخذاه لو تحرك نحو القتال ، لملكوا ذلك الموضع ، وهلك المسلمون عن آخرهم ، فأقام الأفشين بخندقه أياما ، فشكا المتطوعة إليه ضيق العلوفة ، والزاد ، والنفقة ، فقال : من صبر فليصبر ، ومن لم [ يصبر ] فالطريق واسع فلينصرف ، وفي جند أمير المؤمنين كفاية ، فانصرف المتطوعة يقولون : لو ترك الأفشين جعفرا وتركنا لأخذنا البذ ، لكنه يشتهي المطاولة ، فبلغه ذلك وما تتناوله المتطوعة بألسنتهم حتى قال بعضهم : إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ، قال لي : قل للأفشين ( إن أنت حاربت هذا وجددت في أمره ، وإلا أمرت الجبال أن ترجمك بالحجارة ، فتحدث الناس بذلك ، فبلغ الأفشين ) ، فأحضره ، وسأله عن المنام ، فقصه عليه ، فقال : الله يعلم نيتي وما أريد بهذا الخلق ، وإن الله لو أمر الجبال برجم أحد لرجم هذا الكافر فكفانا مؤونته . فقال رجل من المتطوعة : أيها الأمير لا تحرمنا شهادة إن كانت حضرت ، وإنما قصدنا ثواب الله ووجهه ، فدعنا وحدنا حتى نتقدم بعد أن يكون بإذنك لعل الله أن يفتح علينا .
فقال الأفشين : إني أرى نياتكم حاضرة ، وأحسب هذا الأمر يريده الله تعالى ، وهو خير إن شاء الله ، وقد نشطتم ونشط الناس ، وما كان هذا رأيي وقد حدث الساعة لما سمعت من كلامكم ، اعزموا على بركة الله أي يوم أردتم حتى نناهضه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
فخرجوا مستبشرين ، فتأخر من أراد الانصراف ، ووعد الأفشين الناس ليوم ذكره لهم ، وأمر الناس بالتجهز وحمل المال والزاد والماء ، وجعل المحامل على البغال تحمل الجرحى ، وزحف بالناس ذلك اليوم وجعل بخاراخذاه بمكانه على العقبة ، وجلس الأفشين بالمكان الذي كان يجلس فيه ، وقال لأبي دلف : قل للمتطوعة أي ناحية أسهل عليكم فاقتصروا عليها .
فقال لجعفر : العسكر كله بين يديك والنشابة والنفاطون ، فإن أردت فخذ منهم ما تريد واعزم على بركة الله ، وتقدم من أي موضع تريد .
[ ص: 29 ] فسار إلى الموضع الذي كان به ذلك اليوم ، وقال لأبي سعيد : قف عندي أنت وأصحابك ، وقال لجعفر : قف أنت هاهنا ، لمكان عينه له ، فإن أراد جعفر رجالا أو فرسانا أمددناه .
وتقدم جعفر والمتطوعة ، فقاتلوا وتعلقوا بسور البذ ، وضرب جعفر باب البذ ووقف عنده يقاتل عليه ، ووجه الأفشين إليه وإلى المتطوعة بالأموال لتفرق فيهم ويعطى من تقدم ، وأمدهم بالفعلة معهم الفؤوس ، وبعث إليهم بالمياه لئلا يعطشوا وبالكعك والسويق ، فاشتبكت الحرب على الباب طويلا ، ففتحت الخرمية الباب ، وخرجوا على أصحاب جعفر ، فنحوهم عن الباب ، وشدوا على المتطوعة من الناحية الأخرى ، فطرحوهم عن السور ، ورموهم بالصخر ، وأثروا فيهم ، وضعفوا عن الحرب ، وأخذ جعفر من أصحابه نحو مائة رجل ، فوقفوا خلف ترسهم متحاجزين لا يقدم أحد على الآخر ، فلم يزالوا كذلك حتى صليت الظهر فتحاجزوا .
وبعث الأفشين الرجالة الذين كانوا عنده نحو المتطوعة ، وبعث إلى جعفر بعضهم ، خوفا أن يطمع العدو ، فقال جعفر : لست أوتى من قلة ، ولكني لا أرى للحرب موضعا يتقدمون فيه ، فأمره بالانصراف فانصرف .
وحمل الأفشين الجرحى ومن به وهن من الحجارة ، فحملوا في المحامل على البغال وانصرفوا عنهم ، وأيس الناس من الفتح تلك السنة ، وانصرف أكثر المطوعة .
ثم إن الأفشين تجهز بعد جمعتين ، فلما كان جوف الليل بعث الرجالة الناشبة ، وهم ألف رجل ، وأعطى كل واحد منهم شكوة وكعكا ، وأعطاهم أعلاما غير مركبة وبعث معهم أدلاء ، فساروا في جبال منكرة صعبة في غير طريق ، حتى صاروا خلف التل الذي يقف آذين عليه ، وهو جبل شاهق ، وأمرهم أن لا يعلم بهم أحد ، حتى إذا رأوا أعلام الأفشين وصلوا الغداة ورأوا الوقعة ركبوا تلك الأعلام في الرماح وضربوا الطبول وانحدروا من فوق الجبل ، ورموا بالنشاب والصخر على الخرمية ، وإن هم لم يروا الأعلام لم يتحركوا حتى يأتيهم خبره . ففعلوا ذلك فوصلوا إلى رأس الجبل عند السحر ، فلما كان في بعض الليل وجه الأفشين إلى الجند ، وأمرهم بالتجهز للحرب .
فلما كان بعض الليل وجه بشيرا التركي وقوادا من الفراغنة كانوا معه ، فأمرهم أن يسيروا حتى يصيروا تحت التل الذي عليه آذين ، وكان يعلم أن بابك يكمن تحت [ ص: 30 ] ذلك الجبل ، فساروا ليلا ، ولا يعلم بهم أكثر أهل العسكر ، ثم ركب هو والعسكر مع السحر ، فصلى الغداة ، وضرب الطبل ، وركب فأتى الموضع الذي كان يقف فيه ، فقعد على عادته ، وأمر بخاراخذاه أن يقف مع جعفر الخياط وأبي سعيد وأحمد بن الخليل بن هشام ، ونزل الموضع الذي كان يقف فيه ، فأنكر الناس ذلك ، وأمرهم أن يقربوا من التل الذي عليه آذين فيحدقوا به ، وكان قبل ينهاهم عنه .
ومضى الناس مع هؤلاء القواد الأربعة ، ( فكان جعفر مما يلي الباب ، وإلى جانبه أبو سعيد ، وإلى جانب أبي سعيد بخاراخذاه ، وكان أحمد مما يلي بخاراخذاه ، فصاروا جميعا حول التل وارتفعت الضجة ) من أسفل الوادي ، فوثب كمين بابك ببشير التركي والفراغنة ، فحاربوهم وسمع أهل العسكر صيحتهم ، فأرادوا الحركة ، فأمر الأفشين مناديا ينادي فيهم أن بشيرا قد أثار كمينا ، فلا يتحركن أحد ، فسكنوا ، ولما سمع الرجال الذين كان سيرهم حتى صاروا في أعلى الجبل ضجة العسكر ركبوا الأعلام على الرماح ، فنظر الناس إلى الأعلام تنحدر من الجبل على خيل آذين ، فوجه آذين إليهم بعض أصحابه .
( وحمل جعفر وأصحابه ) على آذين وأصحابه ، حتى صعدوا إليه ، فحملوا عليه حملة منكرة ، فانحدر إلى الوادي ، وحمل عليه جماعة من أصحاب أبي سعيد ، فإذا تحت دوابهم آبار محفورة ، فتساقطت الفرسان فيها ، فوجه الأفشين الفعلة يطمون تلك الآبار ، ففعلوا ، وحمل الناس عليهم حملة شديدة .
وكان آذين قد جعل فوق الجبل عجلا عليها صخر ، فلما حمل الناس عليه دفع تلك العجل عليهم ، فأفرج الناس منها حتى تدحرجت ، ثم حمل الناس من كل وجه ، فلما نظر بابك إلى أصحابه قد أحدق بهم خرج من طرف البذ ، مما يلي الأفشين ، فأقبل نحوه ، فقيل للأفشين : إن هذا بابك يريدك ، فتقدم إليه ، حتى سمع كلامه ، وكلام أصحابه ، والحرب مشتبكة في ناحية آذين ، فقال : أريد الأمان من أمير المؤمنين ، فقال له الأفشين : قد عرضت هذا عليك ، وهو لك مبذول متى شئت ، فقال : قد شئت الآن على أن تؤخرني حتى أحمل عيالي وأتجهز ، فقال له الأفشين : أنا أنصحك ، خروجك اليوم خير من غد ، قال : قد قبلت هذا ، قال الأفشين : فابعث بالرهائن ! فقال : نعم ، أما فلان وفلان فهم على ذلك التل ، فمر أصحابك بالتوقف .
[ ص: 31 ] فجاء رسول الأفشين ليرد الناس ، فقيل له : إن أعلام الفراغنة قد دخلت البذ ، وصعدوا بها القصور ، فركب وصاح بالناس ، فدخل ، ودخلوا ، وصعد الناس بالأعلام فوق قصور بابك ، وكان قد كمن في قصوره ، وهي أربعة وستمائة رجل ، فخرجوا على الناس ، فقاتلوهم ، ومر بابك ، حتى دخل الوادي الذي يلي هشتادسر ، واشتغل الأفشين ومن معه بالحرب على أبواب القصور ، فأحضر النفاطين فأحرقوها ، وهدم الناس القصور ، فقتلوا الخرمية عن آخرهم ، وأخذ الأفشين أولاد بابك وعياله ، وبقي هناك حتى أدركه المساء ، فأمر الناس بالانصراف ، فرجعوا إلى الخندق بروذ الروذ .
وأما بابك فإنه سار فيمن معه ، وكانوا قد عادوا إلى البذ ، بعد رجوع الأفشين ، فأخذوا ما أمكنهم من الطعام والأموال ، ولما كان الغد رجع الأفشين إلى البذ ، وأمر بهدم القصور وإحراقها ، ففعلوا ، فلم يدع منها بيتا ، وكتب إلى ملوك أرمينية وبطارقتهم ، يعلمهم أن بابك قد هرب وعدة معه ، وهو مار بكم ، وأمرهم بحفظ نواحيهم ، ولا يمر بهم أحد إلا أخذوه ، حتى يعرفوه .
وجاءت جواسيس الأفشين إليه فأعلموه بموضع بابك ، وكان في واد كثير الشجر والعشب ، طرفه بأذربيجان ، وطرفه الآخر بأرمينية ، ولم يمكن للخيل نزوله ، ولا يرى من يستخفي فيه لكثرة شجره ومياهه ، ويسمى هذا الوادي غيضة ، فوجه الأفشين إلى كل موضع فيه طريق إلى الوادي جماعة من أصحابه يحفظونه ، وكانوا خمس عشرة جماعة .
وورد كتاب المعتصم ، فيه أمان بابك ، فدعا الأفشين من كان استأمن إليه من أصحابه ، فأعلمهم ذلك ، وأمرهم بالمسير إليه بالكتاب ، وفيهم ابنه ، فلم يجسر [ على ذلك ] أحد منهم خوفا منه ، فقال : إنه يفرح بهذا الأمان ، فقالوا : نحن أعرف به منك ، فقام رجلان فقالا : اضمن لنا أنك تجري على عيالنا ، فضمن لهما ، فسارا بالكتاب ، فلما رأياه أعلماه ما قدما له ، فقتل أحدهما وأمر الآخر أن يعود بالكتاب إلى الأفشين .
وكان ابنه قد كتب إليه معهما كتابا ، فقال لذلك الرجل : قل لابن الفاعلة : لو كنت ابني للحقت بي ، ولكنك لست ابني ، ولأن تعيش يوما واحدا وأنت رئيس خير من أن تعيش أربعين سنة عبدا ذليلا ! وقعد في موضعه فلم يزل في تلك الغيضة حتى فني زاده ، وخرج من بعض تلك الطرق ، وكان من عليه من الجند ، قد تنحوا قريبا منه ، وتركوا [ ص: 32 ] عليه أربعة نفر يحرسونه .
فبينما هم ذات يوم ، نصف النهار ، إذ خرج بابك وأصحابه ، فلم ير العسكر ، ولا أولئك الذين يحرسون المكان ، فظن أن ليس هناك أحد ، فخرج هو وعبد الله أخوه ، ومعاوية ، وأمه ، وامرأة أخرى ، وساروا يريدون أرمينية ، فرآهم الحراس ، فأرسلوا إلى أصحابهم : إننا قد رأينا فرسانا لا ندري من هم ، وكان أبو الساج هو المقدم عليهم ، فركب الناس وساروا نحوهم ، فرأوا بابك وأصحابه قد نزلوا على ماء يتغدون ، فلما رأى العساكر ركب هو ومن معه ، فنجا هو ، وأخذ معاوية ، وأم بابك ، والمرأة الأخرى ، فأرسلهم أبو الساج إلى الأفشين .
وسار بابك في جبال أرمينية مستخفيا ، فاحتاج إلى طعام ، وكان بطارقة أرمينية قد تحفظوا بنواحيهم ، وأوصوا أن لا يجتاز بهم أحد إلا أخذوه حتى يعرفوه ، وأصاب بابك الجوع ، فرأى حراثا في بعض الأودية ، فقال لغلامه : انزل إلى هذا الحراث ، وخذ معك دنانير ودراهم ، فإن كان معه خبز فاشتر منه .
وكان للحراث شريك قد ذهب لحاجة ، فنزل الغلام إلى الحراث ليأخذ منه الطعام ، فرآه رفيق الحراث ، فظن أنه يأخذ ما معه غصبا ، فعدا إلى المسلحة ، وأعلمهم أن رجلا عليه سيف وسلاح قد أخذ خبز شريكه ، فركب صاحب المسلحة ، وكان في جبال ابن سنباط ، فوجه إلى سهل بن سنباط بالخبر ، فركب في جماعة فوافى الحراث والغلام عنده ، فسأل عنه فأخبره الحراث خبره ، فأخبر الغلام عن مولاه ، ودله عليه ، فلما رأى وجه بابك عرفه ( فترجل له ) ، وأخذ يده فقبلها ، وقال : أين تريد ؟ قال : بلاد الروم ، قال : لا تجد أحدا أعرف بحقك مني ، وليس بيني وبين السلطان عمل ، وكل من هاهنا من البطارقة إنما هم أهل بيتك ، قد صار لك منهم أولاد ؛ وذلك أن بابك كان إذا علم أن عند بعضهم من النساء امرأة جميلة طلبها ، فإن بعث بها إليه ، وإلا أسرى إليه ، فأخذها ، ونهب ماله وعاد ، فخدعه ابن سنباط ، حتى صار إلى حصنه . وأرسل بابك أخاه عبد الله إلى حصن اصطفانوس ، فأرسل ابن سنباط إلى [ ص: 33 ] الأفشين يعلمه بذلك ، فكتب إليه الأفشين يعده ويمنيه ، ووجه إليه أبا سعيد وبورماره ، وأمرهما بطاعته ، وأمرهما ابن سنباط بالمقام في مكان سماه ، وقال : لا تبرحا حتى يأتيكما رسولي ، فيكون العمل بما يقول لكما .
ثم إنه قال لبابك : قد ضجرت من هذا الحصن ، فلو نزلت إلى الصيد ، ففعل ، فلما نزل من الحصن أرسل ابن سنباط إلى أبي سعيد وبورماره ، فأمرهما أن يوافياه : أحدهما من جانب واد هناك ، والثاني من الجانب الآخر ، ففعلا ، فلم يحب أن يدفعه إليهما .
فبينما بابك وابن سنباط يتصيدان إذ خرج عليهما أبو سعيد وبورماره في أصحابهما ، وعلى بابك دراعة بيضاء ، فأخذهما ، وأمروا بابك بالنزول ، فقال : من أنتم ؟ فقال : أنا أبو سعيد ، وهذا فلان ، فنزل ثم قال لابن سنباط من الكلام القبيح ، وشتمه ، وقال : إنما بعتني لليهود بشيء يسير ، لو أردت المال لأعطيتك أكثر مما يعطيك هؤلاء ، فأركبه أبو سعيد ، وساروا به إلى الأفشين ، فلما قرب من العسكر صعد الأفشين ، وجلس ينظر إليه ، وصف عسكره صفين ، وأمر بإنزال بابك عن دابته ، ومشى بين الصفين ، وأدخله الأفشين بيتا ، ووكل به من يحفظه ، وسير معه سهل بن سنباط وابنه معاوية ، فأمر له الأفشين بمائة ألف درهم ، وأمر لسهل بألف ألف درهم ، ومنطقة مغرقة بالجواهر وتاج البطرقة .
وأرسل الأفشين إلى عيسى بن يونس بن اصطفانوس يطلب منه عبد الله أخا بابك فأنفذه إليه ، فحبسه مع أخيه ، وكتب إلى المعتصم بذلك ، فأمره بالقدوم بهما عليه .
وكان وصول بابك إلى الأفشين ببرزند لعشر خلون من شوال .
وكان الأفشين قد أخذ نساء كثيرة وصبيانا كثيرا ، ذكروا أن بابك أسرهم ، وأنهم أحرار من العرب والدهاقين ، فأمر بهم فجعلوا في حظيرة كبيرة ، وأمرهم أن يكتبوا إلى أوليائهم ، فكل من جاء يعرف امرأة ، أو صبيا ، أو جارية ، وأقام شاهدين أخذه ، فأخذ الناس منهم خلقا كثيرا ، وبقي كثير منهم .