ذكر ملك  لخيعة  
  [ ص: 388 ] فلما هلك  عمرو  وتفرقت حمير  ، وثب عليهم رجل من حمير  لم يكن من بيوت المملكة يقال له :  لخيعة نوف ذو شناتر  فملكهم ، في قول   ابن إسحاق  ، فقتل خيارهم وعبث ببيوت أهل المملكة منهم ، وكان امرأ فاسقا يزعمون أنه كان يعمل عمل قوم لوط ، فكان إذا سمع بغلام من أبناء الملوك أنه قد بلغ ، أرسل إليه فوقع عليه في مشربة لئلا يملك بعد ذلك ، ثم يطلع إلى حرسه وجنده قد أخذ سواكا في فيه يعلمهم أنه قد فرغ منه ، ثم يخلي سبيله فيفضحه . 
ذكر ملك  ذي نواس  وقصة أصحاب الأخدود  
 كان من أبناء الملوك  زرعة ذو نواس بن تبان أسعد بن كرب  ، وكان صغيرا حين أصيب أخوه  حسان  ، فشب غلاما جميلا ذا هيئة ، فبعث إليه  لخيعة  ليفعل به ما كان يفعل بغيره ، فأخذ سكينا لطيفا فجعله بين نعله وقدمه ، ثم انطلق إليه مع رسوله ، فلما خلا به في المشربة قتله  ذو نواس  بالسكين ثم احتز رأسه فجعله في كوة مشربته التي يطلع منها ،   [ ص: 389 ] ثم أخذ سواكه فجعله في فيه ، ثم خرج ، فقالوا له :  ذو نواس  أرطب أم يباس ؟ فقال : سل نخماس ، است رطبان  ذو نواس  لا باس . 
فذهبوا ينظرون حين قال لهم ما قال ، فإذا رأس  لخيعة  مقطوع ، فخرجت حمير  والحرس في أثر  ذي نواس  حتى أدركوه فملكوه حيث أراحهم من  لخيعة  ، واجتمعوا عليه ، وكان يهوديا ، وبنجران  بقايا من أهل دين عيسى ابن مريم  على استقامة ، لهم رئيس يقال له  عبد الله بن الثامر  ، وكان أصل النصرانية بنجران    . 
قال   وهب بن منبه     : إن رجلا من بقايا أهل دين عيسى  يقال له  فيميون  ، وكان رجلا صالحا مجتهدا زاهدا في الدنيا مجاب الدعوة ، وكان سائحا لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى غيرها ، وكان لا يأكل إلا من كسب يده ، وكان يعمل الطين ، ويعظم الأحد لا يعمل فيه شيئا ، ويخرج إلى الصحراء يصلي جميع نهاره ، فنزل قرية من قرى الشام  يعمل عمله ذلك مستخفيا ، ففطن به رجل اسمه  صالح  فأحبه حبا شديدا ، وكان يتبعه حيث ذهب لا يفطن به  فيميون  ، حتى خرج مرة يوم الأحد إلى الصحراء واتبعه  صالح  ،  وفيميون  لا يعلم . فجلس  صالح  منه منظر العين مستخفيا ، وقام  فيميون  يصلي ، فبينما هو يصلي إذ أقبل نحوه تنين ، فلما رآه  فيميون  دعا عليه فمات ، ورآه  صالح  ولم يدر ما أصابه ، فخاف على  فيميون  فصاح يا  فيميون  ، التنين قد أقبل نحوك ! فلم يلتفت إليه وأقبل على صلاته حتى أمسى ، وعرف أن  صالحا  عرفه ، فكلمه  صالح  وقال له : يعلم الله أنني ما أحببت شيئا حبك قط ، وقد أردت صحبتك حيثما كنت . قال : افعل . فلزمه  صالح     . 
وكان إذا ما جاءه العبد به ضر شفي إذا دعا له ، وإذا دعي إلى أحد به ضر لم يأته . وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير ، فجعل ابنه في حجرة ألقى عليه ثوبا ثم قال  لفيميون     : قد أردت أن تعمل في بيتي عملا ، فانطلق إليه لأشارطك عليه ، فانطلق معه ، فلما   [ ص: 390 ] دخل الحجرة ألقى الرجل الثوب عن ابنه ، وطلب إليه أن يدعو له ، فدعا له فأبصر . 
وعرف  فيميون  أنه قد عرف بالقرية ، فخرج هو  وصالح  ومر بشجرة عظيمة بالشام    . فناداه رجل وقال : ما زلت أنتظرك ، لا تبرح حتى تقوم علي فإني ميت ، قال : فمات ، فواراه  فيميون  وانصرف ومعه  صالح  ، حتى وطئا بعض أرض العرب ، وأخذهما بعض العرب فباعوهما بنجران  ، وأهل نجران   على دين العرب تعبد نخلة طويلة بين أظهرهم ، لها عيد كل سنة ، إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وحلي جميل ، فعكفوا عليها يوما ، فابتاع رجل من أشرافهم  فيميون  ، وابتاع رجل آخر  صالحا  ، فكان  فيميون  إذا قام من الليل يصلي في بيته ، استسرج له البيت حتى يصبح من غير مصباح . فلما رأى سيده ذلك أعجبه ، فسأله عن دينه فأخبره ، وعاب دين سيده . وقال له : لو دعوت إلهي الذي أعبد لأهلك النخلة . فقال : افعل فإنك إن فعلت دخلنا في دينك وتركنا ما نحن عليه . فصلى  فيميون  ودعا الله تعالى ، فأرسل الله عليها ريحا فجففتها وألقتها ، فاتبعه عند ذلك أهل نجران   على دينه ، فحملهم على شريعة من دين عيسى  ودخل عليهم بعد ذلك الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض . فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران    . 
وقال   محمد بن كعب القرظي     : كان أهل نجران   يعبدون الأوثان ، وكان في قرية من قراها ساحر ، كان أهل نجران   يرسلون أولادهم يعلمهم السحر فلما نزلها  فيميون  ، وهو رجل كان يعبد الله على دين عيسى ابن مريم    - عليه السلام - فإذا عرف في قرية خرج منها إلى غيرها ، وكان مجاب الدعوة يبرئ المرضى ، وله كرامات ، فوصلنجران  فسكن خيمة بين نجران  وبين الساحر ، فأرسل  الثامر  ابنه  عبد الله  مع الغلمان إلى الساحر ، فاجتاز  بفيميون  فرأى ما أعجبه من صلاته ، فجعل يجلس إليه ويستمع منه ، فأسلم معه ووحد الله تعالى وعبده ، وجعل يسأله عن الاسم الأعظم وكان يعلمه فكتمه إياه وقال : لن تحتمله ،  والثامر  يعتقد أن ابنه يختلف إلى الساحر مع الغلمان . فلما رأى  عبد الله  أن صاحبه قد ضن عليه بالاسم الأعظم عمد إلى قداح فكتب عليها أسماء الله جميعها ، ثم ألقاها في النار واحدا واحدا ، حتى إذا ألقى القدح الذي عليه الاسم الأعظم وثب منها فلم تضره شيئا ،   [ ص: 391 ] فأخذه وعاد إلى صاحبه فأخبره الخبر ، فقال له : أمسك على نفسك ، وما أظن أن تفعل ، فكان  عبد الله  لا يلقى أحدا إذا أتى نجران  به ضر إلا قال : يا عبد الله أتدخل في ديني حتى أدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء ؟ فيقول : نعم ، فيوحد الله ويسلم ، ويدعو له  عبد الله  فيشفى ، حتى لم يبق أحد من أهل نجران   ممن به ضر إلا أتاه واتبعه ودعا له فعوفي . 
فرفع شأنه إلى ملك نجران  ، فدعاه فقال له : أفسدت علي أهل قريتي وخالفت ديني ، لأمثلن بك ! فقال : لا تقدر على ذلك . فجعل يرسله إلى الجبل الطويل فيلقى من رأسه فيقع على الأرض ليس به بأس ، فأرسله إلى مياه نجران  ، وهي بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك ، فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس . فلما غلبه قال  عبد الله بن الثامر     : إنك لا تقدر على قتلي حتى توحد الله وتؤمن كما آمنت ، فإنك إذا فعلت قتلتني . فوحد الله الملك ، ثم ضربه بعصا بيده فشجه شجة غير كبيرة فقتله ، فهلك الملك مكانه ، واجتمع أهل نجران   على دين  عبد الله بن الثامر     . 
قال : فسار إليهم  ذو نواس  بجنوده ، فجمعهم ثم دعاهم إلى اليهودية وخيرهم بينها وبين القتل ، فاختاروا القتل ، فخد لهم الأخدود ، فحرق بالنار وقتل بالسيف ، حتى قتل قريبا من عشرين ألفا . 
وقال   ابن عباس     : كان بنجران  ملك من ملوك حمير  يقال له :  ذو نواس  واسمه  يوسف بن شرحبيل  ، وكان قبل مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبعين سنة ، وكان له ساحر حاذق . فلما كبر قال للملك : إني كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر ، فبعث إليه غلاما اسمه  عبد الله بن الثامر  ليعلمه ، فجعل يختلف إلى الساحر ، وكان في طريقه راهب حسن القراءة ، فقعد إليه الغلام ، فأعجبه أمره ، فكان إذا جاء إلى المعلم يدخل إلى الراهب فيقعد عنده ، فإذا جاء من عنده إلى المعلم ضربه وقال له : ما الذي حبسك ؟ وإذا انقلب إلى أبيه دخل إلى الراهب فيضربه أبوه ويقول : ما الذي أبطأ بك ؟ فشكا الغلام ذلك إلى الراهب ، فقال له : إذا أتيت المعلم فقل حبسني أبي ، وإذا أتيت أباك فقل حبسني المعلم . 
وكان في ذلك البلد حية عظيمة قطعت طريق الناس ، فمر بها الغلام فرماها بحجر   [ ص: 392 ] فقتلها ، وأتى الراهب فأخبره . فقال له الراهب : إن لك لشأنا ، وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدلن علي . وصار الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي الناس . 
وكان للملك ابن عم أعمى ، فسمع بالغلام وقتل الحية فقال : ادع الله أن يرد علي بصري . فقال الغلام : إن رد الله عليك بصرك تؤمن به ؟ قال : نعم . قال : اللهم إن كان صادقا فاردد عليه بصره ، فعاد إليه بصره ، ثم دخل على الملك ، فلما رآه تعجب منه وسأله ، فلم يخبره ، وألح عليه فدله على الغلام ، فجيء به ، فقال له : لقد بلغ من سحرك ما أرى . فقال : أنا لا أشفي أحدا إنما يشفي الله من يشاء ، فلم يزل يعذبه حتى دله على الراهب ، فجيء به ، فقال له : ارجع عن دينك ، فأبى ، فأمر به فوضع المنشار على رأسه فشق بنصفين ، ثم قال للغلام : ارجع عن دينك ، فأبى ، فأرسله إلى جبل فقال : اللهم اكفنيهم ! فرجف بهم الجبل وهلكوا . 
ورجع الغلام إلى الملك ، فسأله عن أصحابه ، فقال : كفانيهم الله . فغاظه ذلك وأرسله في سفينة إلى البحر ليلقوه فيه ، فذهبوا به ، فقال : اللهم اكفنيهم ! فغرقوا ونجا ، وجاء إلى الملك فقال : اقتلوه بالسيف ، فضربوه فنبا عنه . وفشا خبره في اليمن  ، فأعظمه الناس وعلموا أنه على الحق ، فقال الغلام للملك : إنك لن تقدر على قتلي إلا أن تجمع أهل مملكتك وترميني بسهم وتقول : بسم الله رب الغلام . ففعل ذلك فقتله . فقال الناس : آمنا برب الغلام ! فقيل للملك : قد نزل بك ما تحذر . فأغلق أبواب المدينة وخد أخدودا وملأه نارا وعرض الناس ، فمن رجع عن دينه تركه ، ومن لم يرجع ألقاه في الأخدود فأحرقه . 
وكانت امرأة مؤمنة ، وكان لها ثلاث بنين ، أحدهم رضيع ، فقال لها الملك : ارجعي وإلا قتلتك أنت وأولادك ، فأبت ، فألقى ابنيها الكبيرين ، فأبت ، ثم أخذ الصغير ليلقيه فهمت بالرجوع . قال لها الصغير : يا أماه لا ترجعي عن دينك ، لا بأس عليك ! فألقاه وألقاها في أثره ، وهذا الطفل أحد من تكلم صغيرا . 
قيل : حفر رجل خربة بنجران  في زمن   عمر بن الخطاب  ، فرأى  عبد الله بن الثامر  واضعا يده على ضربة في رأسه ، فإذا رفعت عنها يده جرت دما ، وإذا أرسلت يده ردها إليها وهو قاعد ، فكتب فيه إلى  عمر  ، فأمر بتركه على حاله . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					