ذكر المعتصم على الأفشين وحبسه غضب
وفي هذه السنة غضب المعتصم على الأفشين وحبسه .
وكان سبب ذلك أن الأفشين كان أيام محاربة بابك لا تأتيه هدية من أهل أرمينية وأذربيجان إلا وجه بها إلى أشروسنة ، فيجتاز ذلك ، فيكتب بعبد الله بن طاهر عبد الله إلى المعتصم يعرفه الخبر ، فكتب إليه المعتصم يأمره بإعلامه بجميع ما يوجه به الأفشين ، ففعل عبد الله ذلك ، فكان الأفشين كلما اجتمع عنده مال يجعله على أوساط أصحابه في الهمايين ( ويسيره إلى أشروسنة ) .
[ ص: 64 ] فأنفذ مرة مالا كثيرا ، فبلغ أصحابه إلى نيسابور ، فوجه ، ففتشهم ، فوجد المال في أوساطهم ، فقال : من أين لكم هذا المال ؟ فقالوا : عبد الله بن طاهر للأفشين ، فقال : كذبتم ، لو أراد أخي الأفشين أن يرسل مثل هذه الهدايا والأموال لكتب يعلمني ذلك الأمر ( بتسييره ) ، وإنما أنتم لصوص .
وأخذ عبد الله المال فأعطاه الجند ، وكتب إلى الأفشين يذكر له ما قال القوم ، وقال : أنا أنكر أن تكون وجهت بمثل هذا المال ولم تعلمني ، وقد أعطيته الجند عوض المال الذي يوجهه أمير المؤمنين ، فإن كان المال لك كما زعموا ، فإذا جاء المال من عند أمير المؤمنين رددته عليك ، وإن يكن غير هذا ، فأمير المؤمنين أحق بهذا المال ، وإنما دفعته إلى الجند لأني أريد [ أن ] أوجههم إلى بلاد الترك .
فكتب إليه الأفشين : إن مالي ومال أمير المؤمنين واحد ، وسأله إطلاق القوم ، فأطلقهم ، فكان ذلك سبب الوحشة بينهما .
وجعل عبد الله يتتبعه ، وكان الأفشين يسمع من المعتصم ما يدل على أنه يريد عزل عبد الله عن خراسان ، فطمع في ولايتها ، فكاتب مازيار يحسن له الخلاف ظنا منه أنه إذا خالف عزل المعتصم عبد الله عن خراسان واستعمله عليها ، وأمره بمحاربة مازيار ، فكان من أمر مازيار ، ما تقدم ، وكان من عصيان منكجور ما ذكرناه أيضا ، فتحقق المعتصم من أمر الأفشين ، فتغير عليه .
وأحس الأفشين بذلك ، فلم يدر ما يصنع ، فعزم على أن يهيئ أطوافا في قصره ، ويحتال في يوم شغل المعتصم وقواده أن يأخذ طريق الموصل ، ويعبر الزاب على تلك الأطواف ، ويصير إلى أرمينية ، وكانت ولاية أرمينية إليه ، ثم يصير إلى بلاد الخزر ، ثم يدور في بلاد الترك ، ويرجع إلى أشروسنة ، أو يستميل الخزر على المسلمين ، فلم يمكنه ذلك ، فعزم على أن يعمل طعاما كثيرا ، ويدعو المعتصم والقواد ، ويعمل فيه سما ، فإن لم يجئ المعتصم عمل ذلك بالقواد مثل أشناس وإيتاخ وغيرهما ، يوم تشاغل المعتصم ، فإذا خرجوا من عنده سار في أول الليل ، فكان قواده ينوبون في دار المعتصم ، كما يفعل القواد ، فكان أواجن الأشروسني [ ص: 65 ] قد جرى بينه وبين من قد اطلع على أمر الأفشين حديث ، فقال أواجن : لا يتم هذا الأمر ، فذهب ذلك الرجل إلى الأفشين فأعلمه ، فتهدد أواجن ، فسمعه بعض من يميل إلى أواجن من خدم الأفشين ، فأتاه ذلك الخادم فأعلمه الحال بعد عوده من النوبة ، فخاف على نفسه ، فخرج إلى دار المعتصم ، فقال لإيتاخ : إن لأمير المؤمنين عندي نصيحة ، قال : قد نام أمير المؤمنين ، فقال أواجن : لا يمكنني أن أصبر إلى غد ، فدق إيتاخ الباب على بعض من يخبر المعتصم بذلك ، فقال المعتصم : قل له ينصرف الليلة إلى غد ! فقال : إن انصرفت ذهبت نفسي ، فأرسل المعتصم إلى إيتاخ : بيته عندك الليلة .
فبيته عنده ، فلما أصبح بكر به على باب المعتصم ، فأخبره بجميع ما كان عنده ، فأمر المعتصم بإحضار الأفشين ، فجاء في سواده ، فأمر بأخذ سواده وحبسه في الجوسق ، وكتب المعتصم إلى في الاحتيال على عبد الله بن طاهر الحسين بن الأفشين ، وكان الحسين قد كثرت كتبه إلى عبد الله ، فشكا من نوح بن الأسد الأمير بما وراء النهر ، وتحامله على ضياعه ، وناحيته ، فكتب عبد الله إلى نوح يعلمه ما كتب به المعتصم في أمر الحسين ، ويأمره أن يجمع أصحابه ويتأهب ، فإذا قدم عليه الحسين بكتاب ولايته فخذه ، واستوثق منه ، واحمله إلي .
وكتب عبد الله إلى الحسين يعلمه أنه قد عزل نوحا ، وأنه قد ولاه ناحيته ، ووجه إليه بكتاب عزل نوح وولايته ، فخرج ابن الأفشين في قلة من أصحابه وسلاحه ، حتى ورد على نوح ، وهو يظن أنه والي الناحية ، فأخذه نوح وقيده ، ووجهه إلى ، فوجه به عبد الله بن طاهر عبد الله إلى المعتصم ، فأمر المعتصم بإحضار الأفشين ليقابل على ما قيل عنه ، فأحضر عند ، وزير محمد بن عبد الملك الزيات المعتصم ، وعنده ، ابن أبي دؤاد وإسحاق بن إبراهيم ، وغيرهما من الأعيان ، وكان المناظر له ابن الزيات ، فأمر بإحضار مازيار ، والموبذ ، والمرزبان بن بركش ، وهو أحد ملوك السغد ، ورجلين من أهل السغد ، فدعا بالرجلين ، وعليهما ثياب رثة ، فقال لهما : ما شأنكما ؟ فكشفا عن ظهورهما ، وهي عارية من اللحم ، فقال محمد بن عبد الملك للأفشين : أتعرف هؤلاء ؟ قال : نعم ، هذا مؤذن ، وهذا إمام بنيا مسجدا بأشروسنة ، فضربت كل واحد منهما ألف سوط ، وذلك أن بيني وبين ملك السغد عهدا وشرطا أن أترك كل قوم على دينهم ، فوثب هذان على [ ص: 66 ] بيت كان فيه أصنام أهل أشروسنة ، فأخرجا الأصنام وجعلاه مسجدا ، فضربتهما على هذا .
قال ابن الزيات : ما كتاب عندك قد حليته بالذهب والجوهر فيه الكفر بالله تعالى ؟
قال : كتاب ورثته عن أبي فيه من آداب العجم وكفرهم ، فكنت آخذ الآداب وأترك الكفر ، ووجدته محلى ، فلم أحتج إلى أخذ الحلية منه ، وما ظننت أن هذا يخرج من الإسلام .
ثم تقدم الموبذ فقال : إن هذا يأكل لحم المخنوقة ، ويحملني على أكلها ، ويزعم أنها أرطب من المذبوحة . وقال لي يوما : قد دخلت لهؤلاء القوم في كل شيء أكرهه ، حتى أكلت الزيت ، وركبت الجمل ، والبغل ، غير أني إلى هذه الغاية لم تسقط عني شعرة ، يعني أخذ شعر العانة ، ولم أختتن .
فقال الأفشين : أخبروني عن هذا أثقة هو في دينه ؟ وكان مجوسيا ، وإنما أسلم أيام المتوكل ، فقالوا : لا ! فقال : فما معنى قبول شهادته ؟ ثم قال للموبذ : أليس كنت أدخلك علي وأطلعك على سري ؟ قال : بلى ! قال : لست بالثقة في دينك ، ولا بالكريم في عهدك ، إذ أفشيت سرا أسررته إليك .
ثم تقدم المرزبان فقال : كيف يكتب إليك أهل بلدك ؟ قال : لا أقول ! قال : أليس يكتبون بكذا بالأشروسنية ؟ قال : بلى ! قال : أليس تفسيره بالعربية : إلى إله الآلهة من عبده فلان بن فلان ؟ قال : بلى ! قال : المسلمون لا يحتملون هذا ، فما أبقيت محمد بن عبد الملك الزيات لفرعون ؟ ( قال : هذه كانت ) عادتهم لأبي وجدي ولي قبل أن أدخل في الإسلام ، فكرهت أن أضع نفسي دونهم فتفسد علي طاعتهم .
ثم تقدم مازيار فقالوا للأفشين : هل كاتبت هذا ؟ قال : لا ! قالوا لمازيار : هل كتب إليك ؟ قال : نعم ، كتب أخوه إلى أخي قوهيار أنه لم يكن ينصر هذا الدين ( الأبيض ) غيري وغيرك ، فأما بابك فإنه لحمقه قتل نفسه ، ولقد جهدت أن أصرف عنه الموت ، فأبى [ ص: 67 ] لحمقه إلا أن أوقعه ، فإن خالفت لم يكن للقوم من يرمونك به غيري ، ومعي الفرسان ، وأهل النجدة ، فإن وجهت إليك لم يبق أحد يحاربنا إلا ثلاثة : العرب ، والمغاربة ، والأتراك ، والعربي بمنزلة الكلب اطرح له كسرة واضرب رأسه ، والمغاربة أكلة رأس ، والأتراك ، فإنما هي ساعة حتى تنفد سهامهم ، ثم تجول الخيل عليهم جولة فتأتي على آخرهم ، ويعود الدين إلى ما لم يزل عليه أيام العجم .
فقال الأفشين : هذا يدعي أن أخي كتب إلى أخيه : لا يجب علي ، ولو كتبت هذا الكتاب إليه لأستميله إلي ويثق بي ، ثم آخذه بقفاه ، وأحظى به عند الخليفة ، كما حظي ، فزجره عبد الله بن طاهر ، فقال ابن أبي دؤاد الأفشين : يا أبا عبد الله أنت ترفع طيلسانك فلا تضعه حتى تقتل جماعة .
فقال له : أمطهر أنت ؟ قال : لا ! قال : فما منعك من ذلك وبه تمام الإسلام ، والطهور من النجاسة ؟ فقال : أوليس في الإسلام استعمال التقية ؟ قال : بلى ! قال : خفت أن أقطع ذلك العضو من جسدي فأموت ، فقال : أنت تطعن بالرمح ، وتضرب بالسيف ، فلا يمنعك ذلك أن يكون ذلك في الحرب ، وتجزع من قطع قلفة ؟ قال : تلك ضرورة تصيبني فأصبر عليها ، وهذا شيء أستجلبه . ابن أبي دؤاد
فقال : قد بان لكم أمره ، فقال لبغا الكبير : عليك به ! فضرب بيده على منطقته ، فجذبها ، وأخذ بمجامع القباء عند عنقه ، ورده إلى محبسه . ابن أبي دؤاد