ذكر ملك ابنه  هرمز بن أنوشروان   
وكانت أمه ابنة  خاقان الأكبر  ، وكان  هرمز بن كسرى  أديبا ذا نية في الإحسان إلى الضعفاء والحمل على الأشراف ، فعادوه وأبغضوه ، وكان في نفسه مثل ذلك ، وكان عادلا بلغ من عدله أنه ركب ذات يوم إلى ساباط المدائن فاجتاز بكروم ، فاطلع أسوار من أساورته في كرم وأخذ منه عناقيد حصرم ، فلزمه حافظ الكروم وصرخ ، فبلغ من خوف الأسوار من عقوبة  كسرى هرمز  أن دفع إلى حافظ الكرم ، منطعة محلاة بذهب عوضا من الحصرم فتركه . 
وقيل : كان مظفرا منصورا لا يمد يده إلى شيء إلا ناله ، وكان داهيا ردي النية ، قد نزع إلى أخواله الترك ، وإنه قتل العلماء وأهل البيوتات والشرف ثلاثة عشر ألف رجل وستمائة رجل ، ولم يكن له رأي إلا في تألف السفلة . وحبس كثيرا من العظماء وأسقطهم وحط مراتبهم وحرم الجنود ، ففسد عليه كثير ممن كان حوله ، وخرج عليه شابه ملك الترك في ثلاثمائة ألف مقاتل في سنة ست عشرة من ملكه ، فوصل هراة  وباذغيس  ، وأرسل إلى هرمز  والفرس  يأمرهم بإصلاح الطرق ليجوز إلى بلاد الروم    . 
 [ ص: 426 ] ووصل ملك الروم  في ثمانين ألفا إلى الضواحي قاصدا له ، ووصل ملك الخزر  إلى الباب والأبواب في جمع عظيم ، فإن جمعا من العرب شنوا الغارة على السواد . فأرسل  هرمز بهرام خشنش  ، ويعرف بجوبين ، في اثني عشر ألفا من المقاتلة اختارهم من عسكره ، فسار مجدا وواقع شابه ملك الترك فقتله برمية رماها واستباح عسكره ، ثم وافاه  برموده بن شابه  فهزمه أيضا وحصره في بعض الحصون حتى استسلم ، فأرسله إلى  هرمز  أسيرا وغنم ما في الحصن ، فكان عظيما . 
ثم خاف  بهرام  ومن معه  هرمز  ، فخلعوه وساروا نحو المدائن ، وأظهروا أن ابنه  أبرويز  أصلح للملك منه ، وساعدهم على ذلك بعض من كان بحضرة  هرمز  ، وكان غرض  بهرام  أن يستوحش  هرمز  من ابنه  أبرويز  ، ويستوحش ابنه منه فيختلفا ، فإن ظفر  أبرويز  بأبيه كان أمره على  بهرام  سهلا ، وإن ظفر أبوه به نجا  بهرام  والكلمة مختلفة ، فينال من  هرمز  غرضه ، وكان يحدث نفسه بالاستقلال بالملك . فلما علم  أبرويز  ذلك خاف أباه ، فهرب إلى أذربيجان  ، فاجتمع عليه عدة من المرازبة والأصبهبذين ، ووثب العظماء بالمدائن  ، وفيهم  بندويه  وبسطام  خالا  أبرويز  ، فخلعوا  هرمز  وسملوا عينيه وتركوه تحرجا من قتله ، وبلغ  أبرويز  الخبر فأقبل من أذربيجان  إلى دار الملك . 
وكان ملك  هرمز  إحدى عشرة سنة وتسعة أشهر ، وقيل : اثنتي عشرة سنة ، ولم يسمل من ملوك الفرس  غيره لا قبله ولا بعده . 
ومن محاسن السير ما حكي عنه أنه لما فرغ من بناء داره التي تشرف على دجلة  مقابل المدائن  عمل وليمة عظيمة وأحضر الناس من الأطراف ، فأكلوا ، ثم قال لهم : هل   [ ص: 427 ] رأيتم في هذه الدار عيبا ؟ فكلهم قال : لا عيب فيها . فقام رجل وقال : فيها ثلاثة عيوب فاحشة ، أحدها : أن الناس يجعلون دورهم في الدنيا ، وأنت جعلت الدنيا في دارك ، فقد أفرطت في توسيع صحونها وبيوتها ، فتتمكن الشمس في الصيف والسموم ، فيؤذي ذلك أهلها ، ويكثر فيها في الشتاء البرد . 
والثاني : أن الملوك يتوصلون في البناء على الأنهار ; لتزول همومهم وأفكارهم بالنظر إلى المياه ، ويترطب الهواء ، وتضيء أبصارهم ، وأنت قد تركت دجلة وبنيتها في القفر . 
والثالث : أنك جعلت حجرة النساء مما يلي الشمال من مساكن الرجال ، وهو أدوم هبوبا ، فلا يزال الهواء يجيء بأصوات النساء وريح طيبهن ، وهذا ما تمنعه الغيرة والحمية . 
فقال  هرمز     : أما سعة الصحون والمجالس فخير المساكن ما سافر فيه البصر ، وشدة الحر والبرد يدفعان بالخيش والملابس والنيران . 
وأما مجاورة الماء فكنت عند أبي وهو يشرف على دجلة ، فغرقت سفينة تحته فاستغاث من بها إليه ، وأبي يتأسف عليهم ويصيح بالسفن التي تحت داره ليلحقوه ، فإلى أن لحقوهم غرق جميعهم ، فجعلت في نفسي أنني لا أجاور سلطانا هو أقوى مني . 
وأما عمل حجرة النساء في جهة الشمال ، فقصدنا به أن الشمال أرق هواء ، وأقل وخامة ، والنساء يلازمن البيوت ، فعمل لذلك . 
وأما الغيرة فإن الرجال لا يخلون بالنساء ، وكل من يدخل هذه الدار إنما هو مملوك وعبد لقيم ، وأما أنت فما أخرج هذا منك إلا بغض لي ، فأخبرني عن سببه . 
فقال الرجل : لي قرية ملك كنت أنفق حاصلها على عيالي ، فغلبني  المرزبان  فأخذها مني ، فقصدتك أتظلم منذ سنتين فلم أصل إليك ، فقصدت وزيرك وتظلمت إليه فلم ينصفني ، وأنا أؤدي خراج القرية حتى لا يزول اسمي عنها ، وهذا غاية الظلم أن يكون غيري يأخذ دخلها وأنا أؤدي خراجها . 
 [ ص: 428 ] فسأل  هرمز  وزيره فصدقه وقال : خفت أعلمك فيؤذيني  المرزبان     . فأمر  هرمز  أن يؤخذ من  المرزبان  ضعف ما أخذ ، وأن يستخدمه صاحب القرية في أي شغل شاء سنتين ، وعزل وزيره ، وقال في نفسه : إذا كان الوزير يراقب الظالم فالأحرى أن غيره يراقبه ، فأمر باتخاذ صندوق ، وكان يقفله ويختمه بخاتم ويترك على باب داره وفيه خرق يلقى فيه رقاع المتظلمين ، وكان يفتحه كل أسبوع ويكشف المظالم ، فأفكر وقال : أريد أعرف ظلم الرعية ساعة فساعة ، فاتخذ سلسلة طرفها في مجلسه في السقف ، والطرف الآخر خارج الدار في روزنة وفيها جرس ، وكان المتظلم يحرك السلسلة فيحرك الجرس فيحضره ويكشف ظلامته . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					