وفيها قتل صالح بن وصيف لثمان بقين من صفر ، وكان سببه أن المهتدي لما كان لثلاث بقين من المحرم أظهر كتابا زعم أن امرأة دفعته إلى سيما الشرابي ، وقالت : إن فيه نصيحة ، وإن منزلها بمكان كذا ، فإن طلبوني فأنا فيه . وطلبت المرأة فلم توجد .
وقيل إنه لم يدر من ألقى الكتاب .
ودعا المهتدي القواد ، وسليمان بن وهب ، فأراهم الكتاب ، فزعم سليمان أنه خط صالح ، فقرأه على القواد ، فإذا فيه أنه مستخف بسامرا ، وإنما استتر طلبا للسلامة وإبقاء الموالي ، وطلبا لانقطاع الفتن ، وذكر ما صار إليه من أموال الكتاب ، وأم المعتز ، وجهة خروجها ، ويدل فيه على قوة نفسه ، فلما فرغوا من قراءته وصله المهتدي بالحث على الصلح ، والاتفاق ، والنهي عن التباغض والتباين ، فاتهمه الأتراك بأنه يعرف مكان صالح ويميل إليه ، وطال الكلام بينهم في ذلك .
فلما كان الغد اجتمعوا بدار موسى بن بغا داخل الجوسق ، واتفقوا على خلع المهتدي ، فقال لهم بايكباك : إنكم قتلتم ابن المتوكل ، وهو حسن الوجه ، سخي الكف ، فاضل النفس ، وتريدون قتل هذا ، وهو مسلم يصوم ولا يشرب النبيذ ، من غير ذنب ! والله لئن قتلتم هذا لألحقن بخراسان ( لأشيع أمركم هناك ) .
فاتصل الخبر بالمهتدي ، فتحول من مجلسه متقلدا سيفا ، وقد لبس ثيابا نظافا وتطيب ، ثم أمر بإدخالهم عليه ، فدخلوا فقال لهم : بلغني ما أنتم عليه ، ولست كمن تقدمني مثل المستعين ، والمعتز ، والله ما خرجت إليكم إلا وأنا متحنط ، وقد أوصيت إلى أخي بولدي ، وهذا سيفي والله لأضربن به ما استمسك قائمه بيدي ، والله لئن سقط مني شعرة ليهلكن وليذهبن أكثركم .
كم هذا الخلاف على الخلفاء ، والإقدام ، والجرأة على الله ! سواء عليكم من قصد الإبقاء عليكم ، ومن كان إذا بلغه هذا منكم دعا بالنبيذ فشربه مسرورا بمكروهكم ، [ ص: 277 ] حتى تعلموا أنه وصل إلى شيء من دنياكم ، أما إنكم لتعلمون أن بعض المتصلين بكم أيسر من جماعة من أهلي وولدي ( سوأة لكم ) ، يقولون : إني أعلم بمكان صالح ، وهل هو إلا رجل من الموالي ؟ فكيف الإقامة معه إذا ساء رأيكم فيه ؟ وإذا أبرمتم الصلح فيه كان ( ذلك ما أنفذه لجميعكم ، وإن أبيتم فشأنكم ، واطلبوا صالحا ، وأما أنا فما أعلم مكانه ) .
قالوا : فاحلف لنا على ذلك ! قال : أما اليمين فنعم ، ولكنها تكون بحضرة بني هاشم ، والقضاة غدا إذا صليت الجمعة ; ثم قال لبايكباك ولمحمد بن بغا : قد حضرتما ما عمله صالح في أموال الكتاب ، وأم المعتز ، فإن أخذ منه شيئا فقد أخذتما مثله ، فأحفظهما ذلك ، ثم أرادوا خلعه ، وإنما منعهم خوف الاضطراب وقلة الأموال ، فأتاهم مال من فارس عشرة آلاف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم ، فلما كان سلخ المحرم انتشر الخبر في العامة أن القوم قد اتفقوا على خلع المهتدي والفتك به ، وأنهم قد أرهقوه ، وكتبوا الرقاع ورموها في الطرق والمساجد ، مكتوب فيها : يا معشر المسلمين ادعوا الله لخليفتكم العدل ، الرضا ، المضاهي ، وأن ينصره الله على عدوه ، ويكفيه مئونة ظالمه ، وتتم النعمة عليه ، وعلى هذه الأمة ببقائه ، فإن الأتراك قد أخذوه بأن يخلع نفسه ، وهو يعذب منذ أيام ، وصلى الله على لعمر بن الخطاب محمد .
فلما كان يوم الأربعاء لأربع خلون من صفر تحرك الموالي بالكرخ والدور ، وبعثوا إلى المهتدي ، وسألوه أن يرسل إليهم بعض إخوته ليحملوه رسالة ، فوجه إليهم أخاه أبا القاسم عبد الله ، فذكروا له أنهم سامعون مطيعون ، وأنهم بلغهم أن موسى ، وجماعة معه يريدونه على الخلع ، وأنهم يبذلون دماءهم دون ذلك ( وما هم دون ذلك ) ، وشكوا تأخر أرزاقهم ، وما صار من الأقطاع ، والزيادات ، والرسوم إلى قوادهم التي قد أجحفت بالخراج والضياع ، ما قد أخذوا النساء والدخلاء ، فكتبوا بذلك كتابا ، فحمله [ ص: 278 ] إلى المهتدي وكتب جوابه بخطه : قد فهمت كتابكم ، وسرني ما ذكرتم من طاعتكم ، فأحسن الله جزاءكم ، وأما ما ذكرتم من خلتكم وحاجتكم فعزيز علي ذلك ، ولوددت والله أن صلاحكم يهيأ بأن لا آكل ولا أشرب ولا أطعم ولدي إلا القوت ، ولا أكسوه ) إلا ستر العورة ، وأنتم تعلمون ما صار إلي من الأموال ، وأما ما ذكرتم من الإقطاعات وغيرها فأنا أنظر في ذلك وأصرفه إلى محبتكم إن شاء الله تعالى .
فقرءوا الكتاب وكتبوا ، بعد الدعاء ، يسألون أن يرد الأمور في الخاص والعام إلى أمير المؤمنين ، لا يعترض عليه معترض ، وأن يرد رسومهم إلى ما كان عليه أيام المستعين ، وهو أن يكون على كل تسعة عريف ، وعلى كل خمسين خليفة ، وعلى كل مائة قائد ، وأن يسقط النساء والزيادات ، ولا يدخل مولى في ماله ولا غيره ، وأن يوضع لهم العطاء كل شهرين ، وأن تبطل الإقطاعات ، وذكروا أنهم سائرون إلى بابه ليقضي حوائجهم ، وإن بلغهم أن أحدا اعترض عليه أخذوا رأسه ، وإن سقط من رأس أمير المؤمنين شعرة قتلوا بها موسى بن بغا وبايكباك وياجور وغيرهم .
وأرسلوا الكتاب مع أبي القاسم ، وتحولوا إلى سامرا ، فاضطرب القواد جدا ; وقد كان المهتدي قعد للمظالم ، وعنده الفقهاء ، والقضاة ، وقام القواد في مراتبهم ، فدخل أبو القاسم إليه بالكتاب ، فقرأه للقواد قراءة ظاهرة ، وفيهم موسى ، وكتب جوابه بخطه ، فأجابهم إلى ما سألوا ، ودفعه إلى أبي القاسم ، فقال أبو القاسم لموسى بن بغا ، وبايكباك ، ومحمد بن بغا : وجهوا معي رسلا يعتذرون إليهم عنكم ; فوجهوا معه رسلا ، فوصلوا إلى الأتراك ، وهم زهاء ألف فارس ، وثلاثة آلاف راجل ، وذلك لخمس خلون من صفر ، فأوصل الكتاب ، وقال : إن أمير المؤمنين قد أجابكم إلى ما سألتم ، وقال لهم : هؤلاء رسل القواد إليكم ، يعتذرون من شيء إن كان بلغكم عنهم ، وهم يقولون إنما أنتم إخوة ، وأنتم منا وإلينا ، واعتذر عنهم .
[ ص: 279 ] فكتبوا إلى المهتدي يطلبون خمسة توقيعات ، توقيعا بخط الزيادات ، وتوقيعا برد الإقطاعات ، وتوقيعا بإخراج الموالي البرانيين من الخاصة إلى البرانيين ، وتوقيعا برد الرسوم إلى ما كانت عليه أيام المستعين ، وتوقيعا برد البلاجي ، ثم يجعل أمير المؤمنين الجيش إلى أحد إخوته ، أو غيرهم ممن يرى ليرفع إليهم أمورهم ، ولا يكون رجلا من الموالي ، وأن يحاسب صالح بن وصيف ، وموسى بن بغا عما عندهما من الأموال ويجعل لهم العطاء كل شهرين ، لا يرضيهم إلا ذلك ، ودفعوا الكتاب إلى أبي القاسم ، وكتبوا كتابا آخر إلى القواد موسى وغيره [ ذكروا فيه ] أنهم كتبوا إلى أمير المؤمنين بما كتبوا ، وأنه لا يمنعهم شيئا مما طلبوا إلا أن يعترضوا عليه ، وأنهم إن فعلوا ذلك لم يوافقوهم ، وأن أمير المؤمنين إن شاكه شوكة ، وأخذ من رأسه شعرة ، أخذوا رءوسهم جميعا ، ولا يقنعهم إلا أن يظهر صالح ، ويجتمع هو وموسى بن بغا حتى ينظر أين الأموال .
فلما قرأ المهتدي الكتاب أمر بإنشاء التوقيعات الخمسة على ما سألوا ، وسيرها إليهم مع أبي القاسم وقت المغرب ، وكتب إليهم بإجابتهم إلى ما طلبوا ، وكتب إليهم موسى بن بغا ( كذلك ، وأذن ) في ظهور صالح ، وذكر أنه أخوه وابن عمه ، وأنه ما أراد ما يكرهون ، فلما قرءوا الكتابين قالوا قد أمسينا ، وغدا نعرفكم رأينا ، فافترقوا .
فلما كان الغد ركب موسى من دار الخليفة ، ومعه من عسكره ألف وخمسمائة رجل ، فوقف على طريقهم ، وأتاهم أبو القاسم ، فلم يعقل منهم جوابا إلا كل طائفة يقولون شيئا ، فلما طال الكلام انصرف أبو القاسم ، فاجتاز بموسى بن بغا وهو في أصحابه ، فانصرف معه .
ثم أمر المهتدي محمد بن بغا أن يسير إليهم مع أخيه أبي القاسم ، فسار في خمسمائة فارس ، ورجع موسى إلى مكانه بكرة ، وتقدم أبو القاسم ومحمد بن بغا فواعداهم عن المهتدي ، وأعطياهم توقيعا فيه أمان صالح بن وصيف ، موكدا غاية التوكيد ، فطلبوا أن يكون موسى في مرتبة بغا الكبير ، وصالح في مرتبة أبيه ، ويكون الجيش ( في يد من ) [ ص: 280 ] هو في يده ، وأن يظهر صالح بن وصيف ، ويوضع لهم العطاء ، ثم اختلفوا ، فقال قوم : قد رضينا ; وقال قوم : لم نرض ; فانصرف أبو القاسم ومحمد بن بغا على ذلك ، وتفرق الناس إلى الكرخ ، والدور وسامرا .
فلما كان الغد ركب بنو وصيف في جماعة معهم ، وتنادوا : السلاح ، ونهبوا دواب العامة ، وعسكروا بسامرا ، وتعلقوا بأبي القاسم ، وقالوا : نريد صالحا ! وبلغ ذلك المهتدي ، فقال لموسى : يطلبون صالحا مني كأني أنا أخفيته ، إن كان عندهم فينبغي لهم أن يظهروه .
ثم ركب موسى ، ومن معه من القواد ، فاجتمع الناس إليه ، فبلغ عسكره أربعة آلاف فارس ، وعسكروا ، وتفرق الأتراك ومن معهم ، ولم يكن للكرخيين ولا للدوريين في هذا اليوم حركة ، وجد موسى ومن معه في طلب ابن وصيف ، واتهموا جماعة به ، فلم يكن عندهم ، ثم إن غلاما دخل دارا وطلب ماء ليشربه ، فسمع قائلا يقول : أيها الأمير تنح ، فإن غلاما يطلب ماء ، فسمع الغلام الكلام ، فجاء إلى عيار فأخبره ، فأخذ معه ثلاثة نفر ، وجاء إلى صالح ، وبيده مرآة ومشط ، وهو يسرح لحيته ، فأخذه ، فتضرع إليه ، فقال : لا يمكنني تركك ولكني أمر بك على ديار أهلك وقوادك ، وأصحابك ، فإن اعترضك منهم اثنان أطلقتك .
فأخرج حافيا ليس على رأسه شيء ، والعامة تعدو خلفه ، وهو على برذون بأكاف ، فأتوا به نحو الجوسق ، فضربه بعض أصحاب موسى على عاتقه ، ثم قتلوه ، وأخذوا رأسه ، وتركوا جثته ، ووافوا به دار المهتدي قبل المغرب ، فقالوا له في ذلك : فقال واروه ، ثم حمل رأسه وطيف به على قناة ، ونودي عليه : هذا جزاء من قتل مولاه .
ولما قتل أنزل موسى رأس بغا الصغير ، وسلم إلى أهله ليدفنوه ، ولما قتل صالح قال السلولي لموسى بن بغا :
أخذت وترك من فرعون حين طغى وجئت إذ جئت يا موسى على قدر
[ ص: 281 ] ثلاثة كلهم باغ أخو حسد
يرميك بالظلم والعدوان عن وتر وصيف في الكرخ ممثول به وبغا
بالجسر محترق بالنار والشرر وصالح بن وصيف بعد منعفر
بالحير جثته والروح في سقر