ذكروا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لما بلغه ما كان من ظفر ربيعة بجيش : ( هذا أول يوم انتصف العرب فيه من العجم وبي نصروا ) كسرى . فحفظ ذلك منه ، وكان يوم الواقعة .
قال هشام بن محمد : كان وأخوه عدي بن زيد التميمي عمار ، وهو أبي ، وعمرو ، وهو سمي ، يكونون مع الأكاسرة ولهم إليهم انقطاع ، وكان المنذر بن المنذر لما ملك جعل ابنه النعمان في حجر ، وكان له غير عدي بن زيد النعمان أحد عشر ولدا وكانوا يسمون الأشاهب لجمالهم . فلما مات المنذر بن المنذر وخلف أولاده أراد أن يملك على العرب من يختاره ، فأحضر كسرى بن هرمز وسأله عن أولاد عدي بن زيد المنذر ، فقال : هم رجال ، فأمره بإحضارهم . فكتب عدي فأحضرهم وأنزلهم ، وكان يفضل إخوة النعمان عليه ويريهم أنه لا يرجو النعمان ويخلو بواحد واحد ويقول له : إذا سألك الملك أتكفونني العرب ؟ قولوا : نكفيكهم إلا النعمان . وقال للنعمان : إذا سألك الملك عن إخوتك فقل له : إذا عجزت عن إخوتي فأنا عن غيرهم أعجز .
وكان من بني مرينا رجل يقال له عدي بن أوس بن مرينا ، وكان داهيا شاعرا ، وكان [ ص: 437 ] يقول للأسود بن المنذر : قد عرفت أني أرجوك وعيني إليك ، وإنني أريدك أن تخالف ، فإنه والله لا ينصح لك أبدا ! فلم يلتفت إلى قوله . عدي بن زيد
فلما أمر كسرى أن يحضرهم ، أحضرهم رجلا رجلا وسألهم عدي بن زيد : أتكفونني العرب ؟ فقالوا : نعم إلا كسرى النعمان . فلما دخل عليه النعمان رأى رجلا دميما أحمر أبرش قصيرا فقال له : أتكفيني إخوتك والعرب ؟ قال : نعم ، وإن عجزت عن إخوتي فأنا عن غيرهم أعجز . فملكه وكساه وألبسه تاجا قيمته ستون ألف درهم ، فقال عدي بن مرينا للأسود : دونك فقد خالفت الرأي .
ثم صنع طعاما ودعا عدي بن زيد عدي بن مرينا إليه وقال : إني عرفت أن صاحبك الأسود كان أحب إليك من صاحبي النعمان ، فلا تلمني على شيء كنت على مثله ، وإني أحب ألا تحقد علي ، وإن نصيبي من هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك ، وحلف لابن مرينا أن لا يهجوه ولا يبغيه غائلة أبدا ، فقام ابن مرينا وحلف أنه لا يزال يهجوه ويبغيه الغوائل . وسار النعمان حتى نزل الحيرة ، وقال ابن مرينا للأسود : إذا فاتك فلا تعجز أن تطلب بثأرك من عدي فإن معدا لا ينام مكرها ، وأمرتك بمعصيته فخالفتني ، وأريد أن لا يأتيك من مالك شيء إلا عرضته علي . ففعل .
وكان ابن مرينا كثير المال ، وكان لا يخلي النعمان يوما من هدية وطرفة ، فصار من أكرم الناس عليه ، وكان إذا ذكر وصفه وقال : إلا أنه فيه مكر وخديعة ، واستمال أصحاب عدي بن زيد النعمان ، فمالوا إليه ، وواضعهم على أن قالوا للنعمان : إن يقول إنك عامله ، ولم يزالوا عدي بن زيد بالنعمان حتى أضغنوه عليه ، فأرسل إلى عدي يستزيره ، فاستأذن عدي في ذلك فأذن له ، فلما أتاه لم ينظر إليه حتى حبسه ومنع من الدخول عليه ، فجعل كسرى عدي يقول الشعر وهو في السجن ، وبلغ النعمان قوله فندم على حبسه إياه وخاف منه إذا أطلقه .
فكتب عدي إلى أخيه أبي أبياتا يعلمه بحاله ، فلما قرأ أبياته وكتابه كلم فيه ، فكتب إلى كسرى النعمان وأرسل رجلا في إطلاق عدي ، وتقدم أخو عدي إلى الرسول بالدخول إلى عدي قبل النعمان ، ففعل ودخل على عدي ، وأعلمه أنه أرسل لإطلاقه ، [ ص: 438 ] فقال له عدي : لا تخرج من عندي وأعطني الكتاب حتى أرسله ، فإنك إن خرجت من عندي قتلني ، فلم يفعل ، ودخل أعداء عدي على النعمان فأعلموه الحال وخوفوه من إطلاقه ، فأرسلهم إليه فخنقوه ثم دفنوه .
وجاء الرسول فدخل على النعمان بالكتاب فقال : نعم وكرامة ، وبعث إليه بأربعة آلاف مثقال وجارية وقال : إذا أصبحت ادخل إليه فخذه . فلما أصبح الرسول غدا إلى السجن فلم ير عديا ، وقال له الحرس : إنه مات منذ أيام . فرجع إلى النعمان وأخبره أنه رآه بالأمس ولم يره اليوم ، فقال : كذبت ! وزاده رشوة واستوثق منه أن لا يخبر ، إلا أنه مات قبل وصوله إلى كسرى النعمان . قال : وندم النعمان على قتله ، واجترأ أعداء عدي على النعمان وهابهم هيبة شديدة . فخرج النعمان في بعض صيده ، فرأى ابنا لعدي يقال له زيد ، فكلمه وفرح به فرحا شديدا ، واعتذر إليه من أمر أبيه وسيره ، إلى ووصفه له ، وطلب إليه أن يجعله مكان أبيه ، ففعل كسرى ، وكان يلي ما يكتب إلى العرب خاصة ، وسأله كسرى عن كسرى النعمان فأحسن الثناء عليه ، وأقام عند الملك سنوات بمنزلة أبيه ، وكان يكثر الدخول على . كسرى
وكان لملوك الأعاجم صفة للنساء مكتوبة عندهم ، وكانوا يبعثون في طلب من يكون على هذه الصفة من النساء ولا يقصدون العرب ، فقال له زيد بن عدي : إني أعرف عند عبدك النعمان من بناته وبنات عمه أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة . قال : فتكتب فيهن . قال : أيها الملك إن شر شيء في العرب ، وفي النعمان أنهم يتكرمون بأنفسهم عن العجم ، فأنا أكره أن تعنتهن ، وإن قدمت أنا عليه لم يقدر على ذلك ، فابعثني وابعث معي رجلا يفقه العربية ، فبعث معه رجلا جلدا ، فخرجا حتى بلغا الحيرة ودخلا على النعمان . قال له زيد : إن الملك احتاج إلى نساء لأهله وولده وأراد كرامتك فبعث إليك . قال : وما هؤلاء النسوة ؟ قال : هذه صفتهن قد جئنا بها .
وكانت الصفة أن المنذر أهدى إلى أنوشروان جارية أصابها عند الغارة على الحارث بن أبي شمر الغساني ، وكتب يصفها أنها معتدلة الخلق ، نقية اللون والثغر ، بيضاء ، وطفاء ، قمراء ، دعجاء ، حوراء ، عيناء ، قنواء ، شماء ، زجاء [ ص: 439 ] برجاء ، أسيلة الخد ، شهية القد ، جثيلة الشعر ، بعيدة مهوى القرط ، عيطاء ، عريضة الصدر ، كاعب الثدي ، ضخمة مشاشة المنكب والعضد ، حسنة المعصم ، لطيفة الكف ، سبطة البنان ، لطيفة طي البطن ، خميصة الخصر ، غرثى الوشاح ، رداح القبل ، رابية الكفل ، لفاء الفخذين ، ريا الروادف ، ضخمة المأكمتين ، عظيمة الركبة ، مفعمة الساق ، مشبعة الخلخال ، لطيفة الكعب والقدم ، قطوف المشي ، مكسال الضحى ، بضة المتجرد ، سموع للسيد ، ليست بخنساء ولا سفعاء ، ذليلة الأنف ، عزيزة النفر ، لم تغذ في بؤس ، حيية ، رزينة ، ركينة ، [ ص: 440 ] كريمة الخال ، تقتصر بنسب أبيها دون فصيلتها ، وبفصيلتها دون جماع قبيلتها ، قد أحكمتها الأمور في الأدب ، فرأيها رأي أهل الشرف ، وعملها عمل أهل الحاجة ، صناع الكفين ، قطيعة اللسان ، رهوة الصوت ، تزين البيت وتشين العدو ، إن أردتها اشتهت ، وإن تركتها انتهت ، تحملق عيناها ، ويحمر خداها ، وتذبذب شفتاها ، وتبادر الوثبة ، ولا تجلس إلا بأمرك إذا جلست .
فقبلها وأمر بإثبات هذه الصفة ، فبقيت إلى أيام كسرى . فقرأ كسرى بن هرمز زيد هذه الصفة على النعمان ، فشق ذلك عليه وقال لزيد ، والرسول يسمع : أما في عين السواد وفارس ما تبلغون حاجتكم ! قال الرسول لزيد : ما العين ؟ قال : البقر .
وأنزلهما يومين وكتب إلى : إن الذي طلب الملك ليس عندي وقال كسرى لزيد اعذرني عنده .
فلما عاد إلى قال كسرى لزيد : أين ما كنت أخبرتني به ؟ قال : قد قلت للملك وعرفته بخلهم بنسائهم على غيرهم وأن ذلك لشقائهم وسوء اختيارهم ، وسل هذا الرسول عن الذي قال ، فإني أكرم الملك عن ذلك . فسأل الرسول ، فقال : إنه قال : أما في بقر السواد وفارس ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا ؟ فعرف الغضب في وجهه ووقع في قلبه وقال : رب عبد قد أراد ما هو أشد من هذا فصار أمره إلى التباب .
وبلغ هذا الكلام النعمان ، وسكت على ذلك أشهرا كسرى والنعمان يستعد ، حتى أتاه كتاب يستدعيه . فحين وصل الكتاب أخذ سلاحه وما قوي عليه ، ثم [ ص: 441 ] لحق بجبلي طيء ، وكان متزوجا إليهم ، وطلب منهم أن يمنعوه . فأبوا عليه خوفا من كسرى ، فأقبل وليس أحد من العرب يقبله ، حتى نزل في كسرى ذي قار في بني شيبان سرا ، فلقي هانئ بن مسعود بن عامر بن عمرو الشيباني وكان سيدا منيعا ، والبيت من ربيعة في آل ذي الجدين لقيس بن مسعود بن قيس بن خالد ذي الجدين ، وكان قد أطعمه كسرى الأبلة ، فكره النعمان أن يدفع إليه أهله لذلك ، وعلم أن هانئا يمنعه مما يمنع منه أهله ، فأودعه أهله وماله ، وفيه أربعمائة درع ، وقيل : ثمانمائة درع .
وتوجه النعمان إلى فلقي كسرى زيد بن عدي على قنطرة ساباط ، فقال : انج نعيم . فقال : أنت يا زيد فعلت هذا ! أما والله لئن انفلت لأفعلن بك ما فعلت بأبيك . فقال له زيد : امض نعيم فقد والله وضعت لك عنده أخية لا يقطعها المهر الأرن .
فلما بلغ أنه بالباب بعث إليه فقيده ، وبعث به إلى كسرى خانقين حتى وقع الطاعون فمات فيه ، قال : والناس يظنون أنه مات بساباط ببيت الأعشى وهو يقول :
فذاك وما أنجى من الموت ربه بساباط حتى مات وهو محرزق
؟[ ص: 442 ] وكان موته قبل الإسلام .
فلما مات استعمل كسرى إياس بن قبيصة الطائي على الحيرة وما كان عليه النعمان . وكان اجتاز به لما سار إلى ملك كسرى الروم فأهدى له هدية ، فشكر ذلك له وأرسل إليه ، فبعث بأن يجمع ما خلفه كسرى النعمان ويرسله إليه ، فبعث إياس إلى هانئ بن مسعود الشيباني يأمره بإرسال ما استودعه النعمان ، فأبى هانئ أن يسلم ما عنده . فلما أبى هانئ غضب ، وعنده كسرى النعمان بن زرعة التغلبي ، وهو يحب هلاك بكر بن وائل ، فقال لكسرى : أمهلهم حتى يقيظوا ويتساقطوا على ذي قار تساقط الفراش في النار فتأخذهم كيف شئت .
فصبر حتى جاءوا حنو كسرى ذي قار ، فأرسل إليهم كسرى النعمان بن زرعة يخيرهم واحدة من ثلاث : إما أن يعطوا بأيديهم ، وإما أن يتركوا ديارهم ، وإما أن يحاربوا . فولوا أمرهم حنظلة بن ثعلبة العجلي ، فأشار بالحرب ، فآذنوا الملك بالحرب ، فأرسل كسرى إياس بن قبيصة الطائي أمير الجيش ، ومعه مرازبة الفرس والهامرز التستري وغيره من العرب تغلب وإياد وقيس بن مسعود بن قيس بن ذي الجدين ، وكان على طف سفوان ، فأرسل الفيول ، وكان قد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فقسم هانئ بن مسعود دروع النعمان وسلاحه .
فلما دنت الفرس من بني شيبان قال هانئ بن مسعود : يا معشر بكر ، إنه لا طاقة لكم في قتال فاركنوا إلى الفلاة . فسارع الناس إلى ذلك ، فوثب كسرى حنظلة بن ثعلبة العجلي وقال : يا هانئ أردت نجاءنا فألقيتنا في الهلكة ، ورد الناس وقطع وضن الهوادج ، وهي الحزم للرجال ، فسمي مقطع الوضن ، وضرب على نفسه قبة ، وأقسم ألا يفر حتى تفر القبة ، فرجع الناس واستقوا ماء لنصف شهر . فأتتهم العجم فقاتلتهم بالحنو ، فانهزمت العجم خوفا من العطش إلى الجبابات ، فتبعتهم بكر وعجل وأبلت يومئذ بلاء حسنا ، واضطمت عليهم جنود العجم ، فقال الناس : هلكت عجل .
[ ص: 443 ] ثم حملت بكر فوجدت عجلا تقاتل ، وامرأة منهم تقول :
إن يظفروا يحرزوا فينا الغرل إيها فداء لكم بني عجل
فقاتلوهم ذلك اليوم ، ومالت العجم إلى بطحاء ذي قار خوفا من العطش ، فأرسلت إياد إلى بكر ، وكانوا مع الفرس ، وقالوا لهم : إن شئتم هربنا الليلة ، وإن شئتم أقمنا ونفر حين تلاقون الناس . فقالوا : بل تقيمون وتنهزمون إذا التقينا . وقال زيد بن حسان السكوني ، وكان حليفا لبني شيبان : أطيعوني واكتموا لهم ففعلوا ، ثم قاتلوا وحرض بعضهم بعضا ، وقالت ابنة القرين الشيبانية :
ويها بني شيبان صفا بعد صف إن تهزموا يصبغوا فينا القلف
فقطع سبعمائة من بني شيبان أيدي أقبيتهم من مناكبهم لتخف أيديهم لضرب السيوف ، فجالدوهم وبارز الهامرز ، فبرز إليه برد بن حارثة اليشكري فقتله برد ، ثم حملت ميسرة بكر وميمنتها ، وخرج الكمين فشدوا على قلب الجيش وفيهم إياس بن قبيصة الطائي ، وولت إياد منهزمة كما وعدتهم ، فانهزمت الفرس واتبعتهم بكر تقتل ولا تلتفت إلى سلب وغنيمة . وقال الشعراء في وقعة ذي قار فأكثروا .