ذكر بالموصل وإخراج عاملهم الفتنة
كان الخليفة المعتمد على الله قد استعمل على الموصل أساتكين ، وهو من أكابر قواد الأتراك ، فسير إليه ابنه أذكوتكين في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين ومائتين ; فلما كان يوم النيروز من هذه السنة ، وهو الثالث عشر من نيسان ، غيره المعتضد بالله ، ودعا أذكوتكين ووجوه أهل الموصل إلى قبة في الميدان ، وأحضر أنواع الملاهي ، وأكثر الخمر ، وشرب ظاهرا ، وتجاهر أصحابه بالفسوق ، وفعل المنكرات ، وأساء السيرة في الناس .
وكان تلك السنة برد شديد أهلك الأشجار ، والثمار ، والحنطة ، والشعير ، وطالب الناس بالخراج على الغلات التي هلكت ، فاشتد ذلك عليهم ، وكان لا يسمع بفرس جيد عند أحد إلا أخذه ، وأهل الموصل صابرون ، إلى أن وثب رجل من أصحابه على امرأة فأخذها في الطريق ، فامتنعت ، واستغاثت ، فقام رجل اسمه إدريس الحميري ، وهو من أهل القرآن والصلاح ، فخلصها من يده ، فعاد الجندي إلى أذكوتكين فشكا من الرجل ، فأحضره وضربه ضربا شديدا من غير أن يكشف الأمر ، فاجتمع وجوه أهل الموصل إلى الجامع وقالوا : قد صبرنا على أخذ الأموال ، وشتم الأعراض ، وإبطال السنن والعسف ، وقد أفضى الأمر إلى أخذ الحريم ، فأجمع رأيهم على إخراجه ، والشكوى منه إلى الخليفة .
وبلغه الخبر ، فركب إليهم في جنده ، وأخذ معه النفاطين ، فخرجوا إليه وقاتلوه قتالا شديدا ، حتى أخرجوه عن الموصل ، ونهبوا داره ، وأصابه حجر فأثخنه ، ومضى يومه إلى بلده ، وسار منها إلى سامرا .
[ ص: 317 ] واجتمع الناس إلى يحيى بن سليمان ، وقلدوه أمرهم ، ففعل ، فبقي كذلك إلى أن انقضت سنة ستين ، فلما دخلت سنة إحدى وستين [ ومائتين ] كتب أستاتكين إلى الهيثم بن المعمر التغلبي ، ثم العدوي ، في أن يتقلد الموصل ، وأرسل إليه الخلع واللواء ، وكان بديار ربيعة ، فجمع جموعا كثيرة ، وسار إلى الموصل ، ونزل بالجانب الشرقي ، وبينه وبين البلد دجلة ، فقاتلوه ، فعبر إلى الجانب الغربي وزحف إلى باب البلد ، فخرج إليه يحيى بن سليمان في أهل الموصل ، فقاتلوه فقتل بينهم قتلى كثيرة ، وكثرت الجراحات وعاد الهيثم عنهم .
فاستعمل أساتكين على الموصل إسحاق بن أيوب التغلبي في جمع يبلغون عشرين ألفا ، منهم حمدان بن حمدون التغلبي ، وغيره ، فنزل عند الدير الأعلى ، فقاتله أهل الموصل ومنعوه ، فبقوا كذلك مدة ، فمرض يحيى بن سليمان الأمير ، فطمع إسحاق في البلد ، ووصل إلى سوق الأربعاء ، وأحرق سوق الحشيش ، فخرج بعض العدول ، اسمه زياد بن عبد الواحد ، وعلق في عنقه مصحفا ، واستغاث بالمسلمين فأجابوه ، وعادوا إلى الحرب ، وحملوا على إسحاق وأصحابه ، وأخرجوهم من المدينة .
وبلغ يحيى بن سليمان الخبر فأمر فحمل في محفة ، وجعل أمام الصف ، فلما رآه أهل الموصل قويت نفوسهم ، واشتد قتالهم ، ولم يزل الأمر كذلك ، وإسحاق يراسل أهل الموصل ، ( ويعدهم الأمان ) ، وحسن السيرة ، فأجابوه إلى أن يدخل البلد ، ويقيم بالربض الأعلى ، فدخل وأقام سبعة أيام .
ثم وقع بين بعض أصحابه ، وبين قوم من أهل الموصل شر ، فرجعوا إلى الحرب ، وأخرجوه عنها ، واستقر يحيى بن سليمان بالموصل .