ذكر كسرى شيرويه بن أبرويز بن هرمز بن أنوشروان ملك
لما ملك شيرويه بن أبرويز وأمه مريم ابنة موريق ملك الروم واسمه قباذ ، دخل عليه العظماء والأشراف فقالوا : لا يستقيم أن يكون لنا ملكان ، فإما أن تقتل ونحن عبيدك ، وإما أن نخلعك ونطيعه . كسرى
فانكسر شيرويه ونقل أباه من دار الملك إلى موضع آخر حبسه فيه ، ثم جمع العظماء وقال : قد رأينا الإرسال إلى بما كان من إساءته ونوقفه على أشياء منها . فأرسل إليه رجلا يقال له كسرى أستاذ خشنش كان يلي تدبير المملكة ، وقال له : قل لأبينا الملك عن رسالتنا : إن سوء أعمالك فعل بك ما ترى ، منها جرأتك على أبيك ، وسملك عينيه وقتلك إياه ، ومنها سوء صنيعك إلينا معشر أبنائك في منعنا من مجالسة الناس وكل ما لنا فيه دعة ، ومنها إساءتك إلى من خلدت في السجون ، ومنها إساءتك إلى النساء تأخذهن لنفسك وتركك العطف عليهن ، ومنعهن ممن يعاشرهن ويرزقن منه الولد ، ومنها ما أتيت إلى رعيتك عامة من العنف والغلظة والفظاظة ، ومنها جمع الأموال في شدة وعنف من أربابها ، ومنها تجميرك الجنود في ثغور الروم وغيرها ، وتفريقك بينهم وبين أهليهم ، ومنها غدرك بموريق ملك الروم مع إحسانه إليك وحسن بلائه عندك وتزويجه [ ص: 448 ] إياك بابنته ، ومنعك إياه خشبة الصليب التي لم يكن بك ولا بأهل بلادك إليها حاجة ، فإن كان لك حجة تذكرها فافعل ، وإن لم يكن لك حجة فتب إلى الله تعالى حتى يأمر فيك بأمره .
قال : فجاء الرسول إلى فأدى إليه الرسالة ، فقال كسرى أبرويز أبرويز : قل عني لشيرويه القصير العمر ، لا ينبغي لأحد أن يتوب من أجل الصغير من الذنب ، إلا بعد أن يتيقنه فضلا عن عظيمه ما ذكرت وكثرت منا ، ولو كنا كما تقول لم يكن لك أيها الجاهل أن تنشر عنا مثل هذا العظيم الذي يوجب علينا القتل ، لما يلزمك في ذلك من العيوب ، فإن قضاة أهل ملتك ينفون ولد المستوجب للقتل من أبيه ، وينفونه من مضامة أهل الأخيار ومجالستهم فضلا عن أن يملك ، مع أنه قد بلغ منا بحمد الله من إصلاحنا أنفسنا وأبناءنا ورعيتنا ما ليس في شيء منه تقصير ، ونحن نشرح الحال فيما لزمنا من الذنوب لتزداد علما بجهلك . فمن جوابنا : أن الأشرار أغروا كسرى هرمز والدنا بنا حتى اتهمنا ، فرأينا من سوء رأيه فينا ما يخوفنا منه ، فاعتزلنا بابه إلى أذربيجان ، وقد استفاض ذلك ، فلما انتهك منه ما انتهك شخصنا إلى بابه ، فهجم المنافق بهرام علينا فأجلانا عن المملكة ، فسرنا إلى الروم وعدنا إلى ملكنا واستحكم أمرنا ، فبدأنا بأخذ الثأر ممن قتل أبانا أو شرك في دمه .
وأما ما ذكرت من أمر أبنائنا ، فإننا وكلنا بكم من يكفكم عن الانتشار فيما لا يعنيكم فتتأذى بكم الرعية والبلاد ، وكنا أقمنا لكم النفقات الواسعة وجميع ما تحتاجون إليه ، وأما أنت خاصة فإن المنجمين قضوا في مولدك أنك مثرب علينا ، وأن يكون ذلك بسببك ، وإن ملك الهند كتب إليك كتابا وأهدى لك هدية ، فقرأنا الكتاب فإذا هو يبشرك بالملك بعد ثمان وثلاثين سنة من ملكنا ، وقد ختمنا على الكتاب وعلى مولدك وهما عند شيرين ، فإن أحببت أن تقرأهما فافعل ، فلم يمنعنا ذلك عن برك والإحسان إليك فضلا عن قتلك .
وأما ما ذكرت عمن خلدناه في السجون ، فجوابنا : إننا لم نحبس إلا من وجب عليه القتل أو قطع بعض الأطراف ، وقد كان الموكلون بهم والوزراء يأمروننا بقتل من وجب قتله قبل أن يحتالوا لأنفسهم ، فكنا بحبنا الاستبقاء وكراهتنا لسفك الدماء نتأنى [ ص: 449 ] بهم ونكل أمرهم إلى الله تعالى ، فإن أخرجتهم من محبسهم عصيت ربك ، ولتجدن غب ذلك .
أما قولك : إنا جمعنا الأموال ، وأنواع الجواهر والأمتعة بأعنف جمع وأشد إلحاح ، فاعلم أيها الجاهل أنه إنما يقيم الملك بعد الله تعالى الأموال والجنود ، وخاصة ملك فارس الذي قد اكتنفه الأعداء ، ولا يقدر على كفهم وردعهم عما يريدونه إلا بالجنود والأسلحة والعدد ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالمال ، وقد كان أسلافنا جمعوا الأموال والسلاح وغير ذلك فأغار المنافق بهرام ومن معه على ذلك إلا اليسير ، فلما ارتجعنا ملكنا وأذعن لنا الرعية بالطاعة ، أرسلنا إلى نواحي بلادنا أصبهبذين وقامرسانين ، فكفوا الأعداء وأغاروا على بلادهم ، ووصل إلينا غنائم بلادهم من أصناف الأموال والأمتعة ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، وقد بلغنا أنك هممت بتفريق هذه الأموال على رأي الأشرار المستوجبين للقتل ، ونحن نعلمك أن هذه الأموال لم تجتمع إلا بعد الكد والتعب والمخاطرة بالنفوس ، فلا تفعل ذلك فإنها كهف ملكك وبلادك وقوة على عدوك .
فلما انصرف أستاذ خشنش إلى شيرويه قص عليه جواب أبيه ، ثم إن عظماء الفرس عادوا إلى شيرويه فقالوا : إما أن تأمر بقتل أبيك وإما أن نطيعه ونخلعك ، فأمر بقتله على كره منه وانتدب لقتله رجالا ممن وترهم ، وكان الذي باشر قتله شاب يقال له كسرى أبرويز مهرهرمز بن مردانشاه من ناحية نيمروذ .
فلما قتل شق شيرويه ثيابه وبكى ولطم وجهه ، وحملت جنازته وتبعها العظماء وأشراف الناس ، فلما دفن أمر شيرويه بقتل مهرهرمز قاتل أبيه . وكان ملكه ثمانيا وثلاثين سنة .
ثم إن شيرويه قتل إخوته ، فهلك منهم سبعة عشر أخا ذوو شجاعة وأدب ، بمشورة وزيره فيروز .
وابتلي شيرويه بالأمراض ، ولم يلتذ بشيء من الدنيا ، وكان هلاكه بدسكرة الملك ، وجزع بعد قتل إخوته جزعا شديدا .
ويقال : إنه لما كان اليوم الثاني من قتل إخوته دخلت عليه بوران وآزرميدخت أختاه [ ص: 450 ] فأغلظتا له وقالتا : حملك الحرص على الملك الذي لا يتم لك على قتل أبيك وإخوتك . فلما سمع ذلك بكى بكاء شديدا ورمى التاج عن رأسه ولم يزل مهموما مدنفا . ويقال : إنه أباد من قدر عليه من أهل بيته . وفشا الطاعون في أيامه فهلك من الفرس أكثرهم ، ثم هلك هو . وكان ملكه ثمانية أشهر .