ذكر الحسين الحلاج قتل
في هذه السنة قتل وأحرق ، وكان ابتداء حاله أنه كان يظهر الزهد والتصوف ، ويظهر الكرامات ، ويخرج للناس فاكهة الشتاء في [ ص: 671 ] الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ، ويمد يده إلى الهواء فيعيدها مملوءة دراهم عليها مكتوب : قل هو الله أحد ، ويسميها دراهم القدرة ويخبر الناس بما أكلوه ، وما صنعوه في بيوتهم ، ويتكلم بما في ضمائرهم فافتتن به خلق كثير واعتقدوا في الحلول ، وبالجملة فإن الناس اختلفوا فيه اختلافهم في الحسين بن منصور الحلاج الصوفي المسيح ، عليه السلام ، فمن قائل إنه حل فيه جزء إلهي ، ويدعي فيه الربوبية ، ومن قائل إنه ولي الله تعالى ، وإن الذي يظهر منه من جملة كرامات الصالحين ومن قائل إنه مشعبذ ، وممخرق ، وساحر كذاب ، ومتكهن ، والجن تطيعه فتأتيه بالفاكهة في غير أوانها .
وكان قدم من خراسان إلى العراق وسار إلى مكة فأقام بها سنة في الحجر لا يستظل تحت سقف شتاء ولا صيفا ، وكان يصوم الدهر ، فإذا جاء العشاء أحضر له القوام كوز ماء ، وقرصا ، فيشربه ، ويعض من القرص ثلاث عضات ( من جوانبه ) ، فيأكلها ويترك الباقي فيأخذونه ، ولا يأكل شيئا آخر إلى الغد آخر النهار .
وكان شيخ الصوفية يومئذ بمكة عبد الله المغربي ، فأخذ أصحابه ومشى إلى زيارة الحلاج ، فلم يجده في الحجر ، وقيل له : قد صعد إلى جبل أبي قبيس ، فصعد إليه ، فرآه على صخرة حافيا ، مكشوف الرأس ، والعرق يجري منه إلى الأرض ، فأخذ أصحابه وعاد ولم يكلمه ، فقال : هذا يتصبر ويتقوى على قضاء الله ، سوف يبتليه الله بما يعجز عنه ( صبره وقدرته وعاد الحسين إلى بغداذ .
وأما فإنه نقل عنه ) عند عوده إلى سبب قتله بغداذ إلى الوزير أنه أحيا جماعة ، وأنه يحيي الموتى ، وأن الجن يخدمونه ، وأنهم يحضرون عنده [ ص: 672 ] ما يشتهي ، وأنه قدموه على جماعة من حواشي الخليفة ، وأن حامد بن العباس نصرا الحاجب قد مال إليه وغيره ، فالتمس حامد الوزير من المقتدر بالله أن يسلم إليه الحلاج وأصحابه ، فدفع عنه نصر الحاجب ، فألح الوزير ، فأمر المقتدر بتسليمه إليه ، فأخذه ، وأخذ معه إنسان يعرف بالشمري ، وغيره ، قيل إنهم يعتقدون أنه إله فقررهم ، فاعترفوا أنهم قد صح عندهم أنه إله ، وأنه يحيي الموتى ، وقابلوا الحلاج على ذلك ، فأنكره وقال : أعوذ بالله أن أدعي الربوبية ، ( أو النبوة ) ، وإنما أنا رجل أعبد الله ، عز وجل ! فأحضر حامد القاضي أبا عمرو والقاضي أبا جعفر بن البهلول ، وجماعة من وجوه الفقهاء والشهود ، فاستفتاهم ، فقالوا : لا يفتى في أمره بشيء إلا أن يصح عندنا ما يوجب قتله ، ولا يجوز قبول قول من يدعي عليه ما ادعاه إلا ببينة أو إقرار .
وكان حامد يخرج الحلاج إلى مجلسه ، ويستنطقه ، فلا يظهر منه ما تكرهه الشريعة المطهرة .
وطال الأمر على ذلك وحامد الوزير مجد في أمره ، وجرى له معه قصص يطول شرحها وفي آخرها أن الوزير رأى كتابا حكى فيه أن الإنسان إذا أراد الحج ، ولم يمكنه ، أفرد من داره بيتا لا يلحقه شيء من النجاسات ، ولا يدخله أحد ، فإذا حضرت أيام الحج طاف حوله ، وفعل ما يفعله الحاج بمكة ثم يجمع ثلاثين يتيما ، ويعمل أجود طعام يمكنه ، ويطعمهم في ذلك البيت ، ويخدمهم بنفسه ، فإذا فرغوا كساهم ، وأعطى كل واحد منهم سبعة دراهم فإذا ، ( فعل ذلك كان كمن حج ) .
[ ص: 673 ] فلما قرئ هذا على الوزير قال القاضي أبو عمرو للحلاج : من أين لك هذا ؟ قال : من كتاب " الإخلاص " ، قال له القاضي : كذبت يا حلال الدم ! ( قد سمعناه للحسن البصري بمكة وليس فيه هذا ، فلما قال له : يا حلال الدم ) ، وسمعها الوزير قال له : اكتب بهذا ، فدافعه أبو عمرو ، فألزمه حامد ، فكتب بإباحة دمه ، وكتب بعده من حضر المجلس .
ولما سمع الحلاج ذلك قال : ما يحل لكم دمي واعتقادي الإسلام ومذهبي السنة ، ولي كتب موجودة ، فالله الله في دمي ! ( وتفرق الناس ) وكتب الوزير إلى الخليفة يستأذن في قتله وأرسل الفتاوى إليه ، فأذن في قتله ، فسلمه الوزير إلى صاحب الشرطة ، فضربه ألف سوط فما تأوه ثم قطع يده ، ثم رجله ، ثم يده ، ثم رجله ، ثم قتل وأحرق بالنار فلما صار رمادا ألقي في دجلة ، ونصب الرأس ببغداذ ، وأرسل إلى خراسان لأنه كان له بها أصحاب ، فأقبل بعض أصحابه يقولون : إنه لم يقتل ، وإنما ألقي شبهه على دابة ، وإنه يجيء بعد أربعين يوما ، وبعضهم يقول : لقيته على حمار بطريق النهروان ، وإنه قال لهم : لا تكونوا مثل هؤلاء البقر الذين يظنون أني ضربت وقتلت .