ذكر الفجار الأول والثاني
أما الفجار الأول فلم يكن فيه كثير أمر ليذكر ، وإنما ذكرناه لئلا يرى ذكر الفجار الثاني وما كان فيه من الأمور العظيمة فيظن أن الأول مثله وقد أهملناه ، فلهذا ذكرناه .
قال : كان الفجار الأول بين ابن إسحاق قريش ومن معها من كنانة كلها وبين قيس عيلان . وسببه أن رجلا من كنانة كان عليه دين لرجل من بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن ، فأعدم الكناني ، فوافى النصري سوق عكاظ بقرد وقال : من يبيعني مثل هذا بما لي على فلان الكناني ؟ فعل ذلك تعييرا للكناني وقومه ، فمر به رجل من كنانة فضرب القرد بالسيف فقتله أنفة مما قال النصري ، فصرخ النصري في قيس ، وصرخ الكناني في كنانة ، فاجتمع الناس وتحاوروا حتى كاد يكون بينهم القتال ثم اصطلحوا .
وقيل : كان سببه أن فتية من قريش قعدوا إلى امرأة من بني عامر وهي وضيئة عليها برقع ، فقالوا لها : اسفري لننظر إلى وجهك ، فلم تفعل . فقام غلام منهم فشك ذيل درعها إلى ظهرها ولم تشعر ، فلما قامت انكشفت دبرها ، فضحكوا وقالوا : منعتنا النظر إلى وجهك فقد نظرنا إلى دبرك . فصاحت المرأة : يا بني عامر فضحت ! فأتاها الناس واشتجروا حتى كاد يكون قتال ، ثم رأوا أن الأمر يسير فاصطلحوا . وقيل : بل قعد رجل منبني غفار يقال له أبو معشر بن مكرز ، وكان عازما منيعا [ ص: 528 ] في نفسه ، وكان بسوق عكاظ ، فمد رجله ثم قال : نحن بنو مدركة بن خندف من يطعنوا في عينه لا يطرف
ومن يكونوا قومه يغطرف كأنه لجة بحر مسدف
أنا والله أعز العرب ، فمن زعم أنه أعز مني فليضربها بالسيف . فقام رجل من قيس يقال له أحمر بن مازن فضربها بالسيف فخرشها خرشا غير كثير ، فاختصم الناس ثم اصطلحوا . - بنو نصر بالنون - .
وأما الفجار الثاني ، وكان بعد الفيل بعشرين سنة ، وبعد موت عبد المطلب باثنتي عشرة سنة ، ولم يكن في أيام العرب أشهر منه ولا أعظم ، فإنما سمي الفجار لما استحل الحيان كنانة وقيس فيه من المحارم ، وكان قبله يوم جبلة ، وهو مذكور في أيام العرب ، والفجار أعظم منه .
وكان سببه أن البراض بن قيس بن رافع الكناني ثم الضمري كان رجلا فاتكا خليعا قد خلعه قومه لكثرة شره ، وكان يضرب المثل بفتكه فيقال : أفتك من البراض . قال بعضهم : والفتى من تعرفته الليالي فهو فيها كالحية النضناض
كل يوم له بصرف الليالي فتكة مثل فتكة البراض
فخرج حتى قدم على النعمان بن المنذر ، وكان النعمان يبعث كل عام بلطيمة للتجارة إلى عكاظ تباع له هناك ، وكان عكاظ وذو المجاز ومجنة أسواقا تجتمع بها العرب كل عام إذا حضر الموسم ، فيأمن بعضهم بعضا حتى تنقضي أيامها ، وكانت مجنة بالظهران ، وكانت عكاظ بين نخلة والطائف ، وكان ذو المجاز بالجانب الأيسر إذا وقفت على الموقف ، فقال النعمان ، وعنده البراض وعروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب [ ص: 529 ] المعروف بالرحال ، وإنما قيل له ذلك لكثرة رحلته إلى الملوك - : من يجيز لي لطيمتي هذه حتى يبلغها عكاظ ؟ فقال البراض : أنا أجيزها ، أبيت اللعن ، على كنانة . فقال النعمان : إنما أريد من يجيزها على كنانة وقيس ! فقال عروة : أكلب خليع يجيزها لك ، أبيت اللعن ! أنا أجيزها على أهل الشيح والقيصوم من أهل تهامة وأهل نجد . فقال البراض ، وغضب : وعلى كنانة تجيزها يا عروة ؟ قال عروة : وعلى الناس كلهم .
فدفع النعمان اللطيمة إلى عروة الرحال وأمره بالمسير بها ، وخرج البراض يتبع أثره ، وعروة يرى مكانه ولا يخشى منه ، حتى إذا كان عروة بين ظهري قومه بواد يقال له تيمن بنواحي فدك أدركه البراض بن قيس فأخرج قداحه يستقسم بها في قتل عروة ، فمر به عروة فقال : ما تصنع يا براض ؟ فقال : أستقسم في قتلك أيؤذن لي أم لا . فقال عروة : استك أضيق من ذلك ! فوثب إليه البراض بالسيف فقتله . فلما رآه الذين يقومون على العير والأحمال قتيلا انهزموا ، فاستاق البراض العير وسار على وجهه إلى خيبر ، وتبعه رجلان من قيس ليأخذاه ، أحدهما غنوي والآخر غطفاني ، واسم الغنوي أسد بن جوين ، واسم الغطفاني مساور بن مالك ، فلقيهما البراض بخيبر أول الناس فقال لهما : من الرجلان ؟ قالا : من قيس قدمنا لنقتل البراض . فأنزلهما وعقل راحلتيهما ، ثم قال أيكما أجرأ عليه وأجود سيفا ؟ قال الغطفاني : أنا . فأخذه ومشى معه ليدله بزعمه على البراض ، فقال للغنوي : احفظ راحلتيكما ، ففعل ، وانطلق البراض بالغطفاني حتى أخرجه إلى خربة في جانب خيبر خارجا من البيوت ، فقال للغطفاني : هو في هذه الخربة إليها يأوي فأمهلني حتى أنظر أهو فيها . فوقف ودخل البراض ثم خرج فقال : هو فيها وهو نائم ، فأرني سيفك حتى أنظر إليه أضارب هو أم لا ، فأعطاه سيفه ، فضربه به حتى قتله ثم أخفى السيف ، وعاد إلى الغنوي فقال له : لم أر رجلا أجبن من صاحبك ، تركته في البيت الذي فيه البراض وهو نائم فلم يقدم عليه . فقال : انظر لي من يحفظ الراحلتين حتى أمضي إليه فأقتله ، فقال : دعهما وهما علي ، ثم انطلقا إلى الخربة ، فقتله وسار بالعير إلى مكة ، فلقي رجلا من بني أسد بن خزيمة ، فقال له البراض : هل لك إلى أن أجعل لك جعلا على أن تنطلق إلى حرب بن أمية وقومي فإنهم قومي وقومك ، لأن أسد بن خزيمة من خندف أيضا ، فتخبرهم أن البراض بن قيس قتل عروة الرحال ، فليحذروا قيسا ! وجعل له عشرا من الإبل . فخرج [ ص: 530 ] الأسدي حتى أتى عكاظ وبها جماعة من الناس ، فأتى حرب بن أمية فأخبره الخبر ، فبعث إلى عبد الله بن جدعان التيمي وإلى هشام بن المغيرة المخزومي ، وهو والد أبي جهل ، وهما من أشراف قريش وذوي السن منهم ، وإلى كل قبيلة من قريش أحضر منها رجلا ، وإلى الحليس بن يزيد الحارثي ، وهو سيد الأحابيش ، فأخبرهم أيضا . فتشاوروا وقالوا : نخشى من قيس أن يطلبوا ثأر صاحبهم منا فإنهم لا يرضون أن يقتلوا به خليعا من بني ضمرة . فاتفق رأيهم على أن يأتوا أبا براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب ملاعب الأسنة ، وهو يومئذ سيد قيس وشريفها ، فيقولوا له : إنه قد كان حدث بين نجد وتهامة وإنه لم يأتنا علمه فأجز بين الناس حتى تعلم وتعلم .
فأتوه وقالوا له ذلك ، فأجاز بين الناس وأعلم قومه ما قيل له ، ثم قام نفر من قريش فقالوا : يا أهل عكاظ إنه قد حدث في قومنا بمكة حدث أتانا خبره ، ونخشى إن تخلفنا عنهم أن يتفاقم الشر ، فلا يروعنكم تحملنا . ثم ركبوا على الصعب والذلول إلى مكة . فلما كان آخر اليوم أتى عامر بن مالك ملاعب الأسنة الخبر فقال : غدرت قريش وخدعني حرب بن أمية ، والله لا تنزل كنانة عكاظ أبدا . ثم ركبوا في طلبهم حتى أدركوهم بنخلة فاقتتل القوم ، فاشتعلت قريش فكادت قريش تنهزم إلا أنها على حاميتها تبادر دخول الحرم ليأمنوا به . فلم يزالوا كذلك حتى دخلوا الحرم مع الليل ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم ، وعمره عشرون سنة .
وقال : لم يكن معهم ، ولو كان معهم لم ينهزموا ، وهذه العلة ليست بشيء ، لأنه قد كان بعد الوحي والرسالة ينهزم أصحابه ويقتلون ، وإذا كان في جمع قبل الرسالة وانهزموا فغير بعيد . الزهري
ولما دخلت قريش الحرم عادت عنهم قيس وقالوا لهم : يا معشر قريش إنا لا نترك دم عروة وميعادنا عكاظ في العام المقبل ، وانصرفت إلى بلادها يحرض بعضها بعضا ويبكون عروة الرحال .
ثم إن قيسا جمعت جموعها ، ومعها ثقيف وغيرها ، وجمعت قريش جموعها ، منهم كنانة جميعها والأحابيش وأسد بن خزيمة ، وفرقت قريش السلاح في الناس ، فأعطى [ ص: 531 ] عبد الله بن جدعان مائة رجل سلاحا تاما ، وفعل الباقون مثله .
وخرجت قريش للموعد ، على كل بطن منها رئيس ، فكان على بني هاشم : الزبير بن عبد المطلب ومعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإخوته أبو طالب وحمزة والعباس بنو عبد المطلب . وعلى بني أمية وأحلافها : حرب بن أمية . وعلى بني عبد الدار : عكرمة بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار . وعلى بني أسد بن عبد العزى : خويلد بن أسد . وعلى بني مخزوم : هشام بن المغيرة أبو أبي جهل . وعلى بني تيم : عبد الله بن جدعان . وعلى بني جمح : معمر بن حبيب بن وهب . وعلى بني سهم : العاص بن وائل . وعلى بني عدي : زيد بن عمرو بن نفيل والد . وعلى سعيد بن زيد بني عامر بن لؤي : عمرو بن عبد شمس والد . وعلى سهيل بن عمرو بني فهر : عبد الله بن الجراح والد أبي عبيدة . وعلى الأحابيش : الحليس بن يزيد وسفيان بن عويف هما قائداهم ، والأحابيش بنو الحارث بن عبد مناة : كنانة وعضل والقارة والديش من بني الهون بن خزيمة والمصطلق بن خزاعة ، وسموا بذلك لحلفهم بني الحارث ، والتحبش التجمع . وعلى بني بكر : بلعاء بن قيس . وعلى بني فراس بن غنم من كنانة : عمير بن قيس جذل الطعان . وعلى بني أسد بن خزيمة : بشر بن أبي حازم . وكان على جماعة الناس حرب بن أمية لمكانه من عبد مناف سنا ومنزلة .
وكانت قيس قد تقدمت إلى عكاظ قبل قريش ، فعلى بني عامر ملاعب الأسنة : أبو [ ص: 532 ] براء . وعلى بني نصر سعد وثقيف : سبيع بن ربيع بن معاوية . وعلى بني جشم : الصمة والد دريد . وعلى غطفان : عوف بن أبي حارثة المري . وعلى بني سليم : عباس بن زعل بن هني بن أنس . وعلى فهم وعدوان : كدام بن عمرو .
وسارت قريش حتى نزلت عكاظ وبها قيس . وكان مع حرب بن أمية إخوته : سفيان وأبو سفيان والعاص وأبو العاص بنو أمية ، فعقل حرب نفسه وقيد سفيان وأبو العاص نفسيهما وقالوا : لن يبرح رجل منا مكانه حتى نموت أو نظفر ، فيومئذ سموا العنابس ، والعنبس الأسد .
واقتتل الناس قتالا شديدا ، فكان الظفر أول النهار لقيس ، وانهزم كثير من بني كنانة وقريش . فانهزم بنو زهرة وبنو عدي ، وقتل معمر بن حبيب الجمحي ، وانهزمت طائفة من بني فراس ، وثبت حرب بن أمية وبنو عبد مناف وسائر قبائل قريش ، ولم يزل الظفر لقيس على قريش وكنانة إلى أن انتصف النهار . ثم عاد الظفر لقريش وكنانة فقتلوا من قيس فأكثروا ، وحمي القتال واشتد الأمر ، فقتل يومئذ تحت راية بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة مائة رجل وهم صابرون ، فانهزمت قيس ، وقتل من أشرافهم عباس بن زعل السلمي وغيره . فلما رأى أبو السيد عم مالك بن عوف النصري ما تصنع كنانة من القتل نادى : يا معشر بني كنانة أسرفتم في القتل . فقال ابن جدعان : إنا معشر يسرف .
ولما رأى سبيع بن ربيع بن معاوية هزيمة قبائل قيس عقل نفسه واضطجع وقال : يا معشر بني نصر قاتلوا عني أو ذروا . فعطفت عليه بنو نصر ، وجشم ، وسعد بن بكر ، وفهم ، وعدوان ، وانهزم باقي قبائل قيس ، فقاتل هؤلاء أشد قتال رآه الناس . ثم إنهم تداعوا إلى الصلح فاصطلحوا على أن يعدوا القتلى فأي الفريقين فضل له قتلى أخذ ديته من الفريق الآخر ، فتعادوا القتلى فوجدوا قريشا وبني كنانة قد أفضلوا على قيس عشرين رجلا ، فرهن حرب بن أمية يومئذ ابنه أبا سفيان في ديات القوم حتى يؤديها ، [ ص: 533 ] ورهن غيره من الرؤساء ، وانصرف الناس بعضهم عن بعض ، ووضعوا الحرب وهدموا ما بينهم من العداوة والشر ، وتعاهدوا على أن لا يؤذي بعضهم بعضا فيما كان من أمر البراض وعروة .