ثم دخلت سنة ست وثمانين وثلاثمائة
ذكر وولاية ابنه العزيز بالله الحاكم وما كان من الحروب إلى أن استقر أمره وفاة
في هذه السنة توفي ، صاحب العزيز أبو منصور نزار بن المعز أبي تميم معد العلوي مصر ، لليلتين بقيتا من رمضان ، وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر ونصف ، بمدينة بلبيس ، وكان برز إليها لغزو الروم ، فلحقه عدة أمراض منها النقرس والحصا والقولنج ، فاتصلت به إلى أن مات .
وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفا ، ومولده بالمهدية من إفريقية .
وكان أسمر طويلا ، أصهب الشعر ، عريض المنكبين ، عارفا بالخيل والجوهر ، قيل إنه ولى عيسى بن نسطورس النصراني كتابته ، واستناب بالشام يهوديا اسمه منشا ، فاعتز بهما النصارى واليهود ، وآذوا المسلمين ، فعمد أهل مصر وكتبوا قصة وجعلوها في يد صورة عملوها من قراطيس ، فيها : بالذي أعز اليهود بمنشا والنصارى بعيسى بن نسطورس ، وأذل المسلمين بك إلا كشفت ظلامتي ، وأقعدوا تلك الصورة على طريق العزيز ، والرقعة بيدها ، فلما رآها أمر بأخذها ، فلما ( قرأ ما فيها ) ، [ ص: 476 ] ورأى الصورة من قراطيس ، علم ما أريد بذلك ، فقبض عليهما ، وأخذ من عيسى ثلاثمائة ألف دينار ، ومن اليهودي شيئا كثيرا .
وكان يحب العفو ويستعمله ، فمن حلمه أنه كان بمصر شاعر اسمه الحسن بن بشر الدمشقي ، وكان كثير الهجاء ، فهجا وزير يعقوب بن كلس العزيز وكاتب الإنشاء من جهته أبا نصر عبد الله الحسين القيرواني ، فقال :
قل لأبي نصر صاحب القصر والمتأتي لنقض ذا الأمر انقض عرى الملك للوزير تفز
منه بحسن الثناء والذكر وأعط ، وامنع ، ولا تخف أحدا
فصاحب القصر ليس في القصر وليس يدري ماذا يراد به
وهو إذا ما درى ، فما يدري
فشكاه إلى ابن كلس العزيز ، وأنشده الشعر فقال له : هذا شيء اشتركنا فيه في الهجاء فشاركني في العفو عنه . ثم قال هذا الشاعر أيضا وعرض بالفضل القائد :
تنصر ، فالتنصر دين حق عليه زماننا هذا يدل
وقل بثلاثة عزوا وجلوا وعطل ما سواهم فهو عطل
فيعقوب الوزير أب ، وهذا العزيز ابن ، وروح القدس فضل
فشكاه أيضا إلى العزيز ، فامتعض منه إلا أنه قال : اعف عنه فعفا عنه .
ثم دخل الوزير على العزيز ، فقال : لم يبق للعفو عن هذا معنى ، وفيه غض من السياسة ، ونقض لهيبة الملك ، فإنه قد ذكرك وذكرني وذكر ابن زبارج نديمك ، وسبك بقوله :
زبارجي نديم وكلسي وزير نعم على قدر الكلب يصلح الساجور
[ ص: 477 ] فلما وصل رسول العزيز في طلبه أراه رأسه مقطوعا ، فعاد إليه فأخبره ، فاغتم له .
ولما مات العزيز ولي بعده ابنه أبو علي المنصور ، ولقب ، بعهد من أبيه ، فولي وعمره إحدى عشرة سنة ( وستة أشهر ) ، وأوصى الحاكم بأمر الله العزيز إلى أرجوان الخادم ، وكان يتولى أمر داره ، وجعله مدبر دولة ابنه الحاكم ، فقام بأمره ، وبايع له ، وأخذ له البيعة على الناس ، وتقدم الحسن بن عمار ، شيخ كتامة وسيدها ، وحكم في دولته ، واستولى عليها ، وتلقب بأمين الدولة ، هو أول من تلقب في دولةالعلويين المصريين ، فأشار عليه ثقاته بقتل الحاكم ، وقالوا : لا حاجة [ بنا ] إلى من يتعبدنا ، فلم يفعل احتقارا له ، واستصغارا لسنه .
وانبسطت كتامة في البلاد ، وحكموا فيها ، ومدوا أيديهم إلى أموال الرعية وحريمهم ، وأرجوان مقيم مع الحاكم في القصر يحرسه ، واتفق معه شكر خادم عضد الدولة ، وقد ذكرنا قبض شرف الدولة عليه ومسيره إلى مصر ، فلما اتفقا ، وصارت كلمتهما واحدة ، كتب أرجوان إلى منجوتكين يشكو ما ( يتم عليه ) من ابن عمار ، فتجهز وسار من دمشق نحو مصر ، فوصل الخبر إلى ابن عمار ، فأظهر أن منجوتكين قد عصى على الحاكم ، وندب العساكر إلى قتاله ، وسير إليه جيشا كثيرا ، وجعل عليهم أبا تميم سليمان بن جعفر بن فلاح الكتامي ، فساروا إليه فلقوه بعسقلان ، فانهزم منجوتكين وأصحابه ، وقتل منهم ألفا رجل ، وأسر منجوتكين وحمل إلى مصر ، فأبقى عليه ابن عمار ، وأطلقه استمالة للمشارقة بذلك .
واستعمل ابن عمار على الشام أبا تميم الكتامي ، واسمه سليمان بن جعفر ، فسار إلى طبرية ، فاستعمل على دمشق أخاه عليا ، فامتنع أهلها عليه ، فكاتبهم أبو تميم [ ص: 478 ] يتهددهم فخافوا وأذعنوا بالطاعة ، واعتذروا من فعل سفهائهم ، وخرجوا إلى علي فلم يعبأ بهم وركب ودخل البلد فأحرق وقتل وعاد إلى معسكره .
وقدم عليهم أبو تميم فأحسن إليهم وأمنهم ، وأطلق المحبسين ونظر في أمر الساحل ، واستعمل أخاه عليا على طرابلس ، وعزل عنها جيش بن الصمصامة الكتامي ، فمضى إلى مصر ، واجتمع مع أرجوان على الحسن بن عمار ، فانتهز أرجوان الفرصة ببعد كتامة عن مصر مع أبي تميم ، فوضع المشارقة على الفتك بمن بقي بمصر منهم ، وبابن عمار معهم .
فبلغ ذلك ابن عمار ، فعمل على الإيقاع بأرجوان وشكر العضدي فأخبرهما عيون لهما على ابن عمار بذلك ، فاحتاطا ودخلا قصر الحاكم باكين ، وثارت الفتنة ، واجتمعت المشارقة ، ففرق فيهم المال ، وواقعوا ابن عمار ومن معه ، فانهزم واختفى .
فلما ظفر أرجوان أظهر الحاكم ، وأجلسه ، وجدد له البيعة ، وكتب إلى وجوه القواد والناس بدمشق بالإيقاع بأبي تميم ، فلم يشعر إلا وقد هجموا عليه ونهبوا خزائنه ، فخرج هاربا ، وقتلوا من كان عنده من كتامة ، وعادت الفتنة بدمشق ، واستولى الأحداث .
ثم إن أرجوان أذن للحسن بن عمار في الخروج من استتاره ، وأجراه على إقطاعه ، وأمره بإغلاق بابه .
وعصى أهل صور ، وأمروا عليهم رجلا ملاحا يعرف بعلاقة ، وعصى أيضا المفرج بن دغفل بن الجراح ، ونزل على الرملة وعاث في البلاد .
[ ص: 479 ] واتفق أن الدوقس ، صاحب الروم ، نزل على حصن أفامية ، فأخرج أرجوان جيش ابن الصمصامة في عسكر ضخم ، فسار حتى نزل بالرملة ، فأطاعه واليها ، وظفر فيها بأبي تميم فقبض عليه ، وسير عسكرا إلى صور ، وعليهم أبو عبد الله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان ، فغزاها برا وبحرا . فأرسل علاقة إلى ملك الروم يستنجده فسير إليه عدة مراكب مشحونة بالرجال ، فالتقوا بمراكب المسلمين على صور فاقتتلوا ، وظفر المسلمون ، وانهزم الروم ، وقتل منهم جمع ، فلما انهزموا انخذل أهل صور ، وضعفت نفوسهم ، فملك البلد أبو عبد الله بن حمدان ، ونهبه ، وأخذت الأموال ، وقتل كثير من جنده ، وكان أول فتح كان على يد أرجوان ، وأخذ علاقة أسيرا فسيره إلى مصر ، فسلخ وصلب بها ، وأقام بصور ، وسار جيش بن الصمصامة لقصد المفرج بن دغفل ، فهرب من بين يديه ، ( وأرسل يطلب العفو فأمنه .
وسار جيش أيضا إلى عسكر الروم ) ، فلما وصل إلى دمشق تلقاه أهلها مذعنين ، فأحسن إلى رؤساء الأحداث ، وأطلق المؤن ، وأباح دم كل مغربي يتعرض لأهلها ، فاطمأنوا إليه .
وسار إلى أفامية ، فصاف الروم عندها ، فانهزم هو وأصحابه ، ما عدا بشارة الإخشيدي ، فإنه ثبت في خمسمائة فارس . ونزل الروم إلى سواد المسلمين يغنمون ما فيه ، والدوقس واقف على رايته ، وبين يديه ولده وعدة غلمان ، فقصده كردي يعرف بأحمد بن الضحاك ، من أصحاب بشارة ، ومعه خشت ، فظنه الدوقس مستأمنا ، فلم [ ص: 480 ] يحترز منه ، فلما دنا منه حمل عليه وضربه بالخشت فقتله ، فصاح المسلمون : قتل عدو الله ! وعادوا ونزل النصر عليهم ، فانهزمت الروم وقتل منهم مقتلة عظيمة .
وسار جيش إلى باب أنطاكية يغنم ويسبي ويحرق ، وعاد إلى دمشق فنزل بظاهرها ، وكان الزمان شتاء ، فسأله أهل دمشق ليدخل البلد ، فلم يفعل ، ونزل ببيت لهيا ، وأحسن السيرة في أهل دمشق ، واستخص رؤساء الأحداث ، واستحجب جماعة منهم ، وجعل يبسط الطعام كل يوم لهم ولمن يجئ معهم من أصحابهم ، فكان يحضر كل إنسان منهم في جمع من أصحابه وأشياعه ، وأمرهم إذا فرغوا من الطعام أن ( يحضروا إلى ) حجرة له يغسلون أيديهم فيها ، فعبر على ذلك برهة من الزمان ، فأمر أصحابه أن رؤساء الأحداث ، إذا دخلوا الحجرة لغسل أيديهم ، أن يغلقوا باب الحجرة عليهم ، ويضعوا السيف في أصحابهم ، فلما كان الغد حضروا الطعام ، وقام الرؤساء إلى الحجرة ، فأغلقت الأبواب عليهم ، وقتل من أصحابهم نحو ثلاثة آلاف رجل ، ودخل دمشق فطافها ، فاستغاث الناس وسألوه العفو وعفا عنهم ، وأحضر أشراف أهلها ، وقتل رؤساء الأحداث بين أيديهم ، وسير الأشراف إلى مصر ، وأخذ أموالهم ونعمهم ، ثم مرض بالبواسير وشدة الضربان فمات .
وولي بعده ابنه محمد ، وكانت ولايته هذه تسعة أشهر . ثم إن أرجوان بعد هذه الحادثة راسل بسيل ملك الروم وهادنه عشر سنين ، واستقامت الأمور على يد أرجوان . وسير أيضا جيشا إلى برقة ، وطرابلس الغرب ففتحها ، واستعمل عليها أنسا الصقلبي ونصح الحاكم ، وبالغ في ذلك ، ولازم خدمته فثقل مكانه على الحاكم ، فقتله سنة تسع وثمانين [ وثلاثمائة ] .
[ ص: 481 ] وكان خصيا أبيض ، وكان لأرجوان وزير نصراني اسمه ( فهد بن ) إبراهيم ، فاستوزره الحاكم ، ثم إن الحاكم رتب الحسين بن جوهر موضع أرجوان ، ولقبه قائد القواد ثم قتل الحسن بن عمار ، المقدم ذكره ، ثم قتل الحسين بن جوهر ، ولم يزل يقيم الوزير بعد الوزير ويقتلهم . ثم جهز يارختكين للمسير إلى حلب ، وحصرها ، وسير معه العساكر الكثيرة ، فسار عنها ، فخافه حسان بن المفرج الطائي ، فلما رحل من غزة إلى عسقلان كمن له حسان ووالده ، وأوقعا به وبمن معه ، وأسراه وقتلاه ، وقتل من الفريقين قتلى كثير ، وحصرا الرملة ، ونهبا النواحي ، وكثر جمعهما ، وملكا الرملة وما والاها ، فعظم ذلك على الحاكم ، وأرسل يعاتبهما ، وسبق السيف العذل ، فأرسلا إلى ، أمير الشريف أبي الفتوح الحسن بن جعفر العلوي الحسني مكة ، وخاطباه بأمير المؤمنين ، وطلباه إليهما ليبايعا له بالخلافة ، فحضر ، واستناب بمكة ، وخوطب بالخلافة .
ثم إن الحاكم راسل حسانا وأباه ، وضمن لهما الأقطاع الكثيرة والعطاء الجزيل ، واستمالهما ، فعدلا عن أبي الفتوح ، ورداه إلى مكة ، وعادا إلى طاعة الحاكم .
ثم إن الحاكم جهز عسكرا إلى الشام ، واستعمل عليهم علي بن جعفر بن فلاح ، فلما وصل إلى الرملة أزاح حسان بن المفرج وعشيرته عن تلك الأرض ، وأخذ ما كان له من الحصون بجبل الشران ، واستولى على أمواله وذخائره ، وسار إلى دمشق واليا عليها ، فوصل إليها في شوال سنة تسعين وثلاثمائة .
[ ص: 482 ] وأما حسان فإنه بقي شريدا نحو سنتين ، ثم أرسل والده إلى الحاكم فأمنه وأقطعه ، فسار حسان إليه بمصر ، فأكرمه وأحسن إليه ، وكان المفرج والد حسان قد توفي مسموما ، وضع الحاكم عليه من سمه ، فبموته ضعف أمر حسان على ما ذكرناه .