[ ص: 153 ] ذكر بالعراق للعلوي المصري وما كان إلى قتل البساسيري الخطبة
لما عاد إلى إبراهيم ينال همذان ( سار طغرلبك خلفه ) ، ورد وزيره وزوجته إلى عميد الملك الكندري بغداذ .
وكان مسيره من نصيبين منتصف شهر رمضان ، ووصل إلى همذان ، وتحصن بالبلد ، وقاتل أهلها بين يديه ، وأرسل إلى الخاتون زوجته يأمرهما باللحاق به ، فمنعهما الخليفة من ذلك تمسكا بهما ، وفرق غلالا كثيرة في الناس ، وسار من كان وعميد الملك الكندري ببغداذ من الأتراك إلى السلطان بهمذان ، وسار عميد الملك إلى فاحترمه وعظمه ، ثم سار من عنده إلى دبيس بن مزيد هزارسب وسارت خاتون إلى السلطان بهمذان ، فأرسل الخليفة إلى يأمره بالوصول إلى نور الدولة دبيس بن مزيد بغداذ ، فورد إليها في مائة فارس ، ونزل في النجمي ثم عبر إلى الأتانين .
وقوي الإرجاف بوصول ، فلما تحقق الخليفة وصوله إلى البساسيري هيت أمر الناس بالعبور من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي ، فأرسل إلى الخليفة وإلى رئيس الرؤساء يقول : الرأي عندي خروجكما من البلد معي ، فإنني أجتمع أنا دبيس بن مزيد وهزارسب - فإنه بواسط - على دفع عدوكما . فأجيب ابن مزيد بأن يقيم حتى يقع الفكر في ذلك ، فقال : العرب لا تطيعني على المقام ، وأنا أتقدم إلى ديالى ، فإذا انحدرتم سرت في خدمتكم . وسار وأقام بديالى ينتظرهما ، فلم ير لذلك أثرا ، فسار إلى بلاده .
ثم إن وصل إلى البساسيري بغداذ يوم الأحد ثامن ذي القعدة ، ومعه أربعمائة غلام على غاية الضر والفقر ، وكان معه أبو الحسن بن عبد الرحيم الوزير ، فنزل البساسيري بمشرعة الروايا ، ونزل قريش بن بدران ، وهو في مائتي فارس ، عند مشرعة باب البصرة ، وركب عميد العراق ومعه العسكر والعوام ، وأقاموا بإزاء عسكر [ ص: 154 ] وعادوا ، وخطب البساسيري بجامع المنصور البساسيري صاحب للمستنصر بالله العلوي مصر ، وأمر فأذن بحي على خير العمل ، وعقد الجسر ، وعبر عسكره إلى الزاهر وخيموا فيه ، وخطب في الجمعة من وصوله ( بجامع الرصافة ) للمصري ، وجرى بين الطائفتين حروب في أثناء الأسبوع .
وكان عميد العراق يشير على رئيس الرؤساء بالتوقف عن المناجزة ، ويرى المحاجزة ومطاولة الأيام انتظارا لما يكون من السلطان ، ولما يراه من المصلحة بسبب ميل العامة إلى ، أما الشيعة فللمذهب ، وأما السنة فلما فعل بهم البساسيري الأتراك .
وكان رئيس الرؤساء لقلة معرفته بالحرب ولما عنده من يرى المبادرة إلى الحرب ، فاتفق أن في بعض الأيام حضر القاضي الهمذاني عند رئيس الرؤساء ، واستأذنه في الحرب ، وضمن له قتل البساسيري ، فأذن له من غير علم عميد البساسيري العراق ، فخرج ومعه الخدم والهاشميون والعجم والعوام إلى الحلبة ، وأبعدوا ، يستجرهم ، فلما أبعدوا حمل عليهم فعادوا منهزمين ، وقتل منهم جماعة ، ومات في الزحمة جماعة من الأعيان ، ونهب والبساسيري باب الأزج ، وكان رئيس الرؤساء واقفا دون الباب ، فدخل الدار ، وهرب كل من في الحريم .
ولما بلغ عميد العراق فعل رئيس الرؤساء لطم على وجهه كيف استبد برأيه ولا معرفة له بالحرب . ورجع إلى معسكره ، واستدعى الخليفة البساسيري عميد العراق وأمره بالقتال على سور الحريم ، فلم يرعهم إلا الزعقات ، وقد نهب الحريم ، وقد دخلوا بباب النوبي ، فركب الخليفة لابسا للسواد ، وعلى كتفه البردة ، وبيده السيف ، وعلى رأسه اللواء ، وحوله زمرة من العباسيين والخدم بالسيوف المسلولة ، فرأى النهب قد وصل إلى باب الفردوس من داره ، فرجع إلى ورائه ، ومضى نحو عميد العراق فوجده قد استأمن إلى قريش ، فعاد وصعد المنظرة ، وصاح رئيس الرؤساء : يا علم الدين - يعني قريشا - أمير المؤمنين يستدنيك . فدنا منه . فقال له رئيس الرؤساء : قد أنالك الله منزلة لم ينلها أمثالك ، وأمير المؤمنين يستذم منك على نفسه وأهله وأصحابه بذمام الله - تعالى - وذمام رسوله - صلى الله عليه وسلم - وذمام العربية .
[ ص: 155 ] فقال : قد أذم الله - تعالى - له . قال : ولي ولمن معه ؟ قال : نعم . وخلع قلنسوته فأعطاها الخليفة ، وأعطى مخصرته رئيس الرؤساء ذماما ، فنزل إليه الخليفة ورئيس الرؤساء من الباب المقابل لباب الحلبة ، وصارا معه .
فأرسل إليه : أتخالف ما استقر بيننا ، وتنقض ما تعاهدنا عليه ؟ فقال البساسيري قريش : لا . وكانا قد تعاهدا على المشاركة في الذي يحصل لهما ، وأن لا يستبد أحدهما دون الآخر بشيء ، فاتفقا على أن يسلم قريش رئيس الرؤساء إلى ; لأنه عدوه ، ويترك الخليفة عنده ، فأرسل البساسيري قريش رئيس الرؤساء إلى ، فلما رآه قال : مرحبا بمهلك الدول ، ومخرب البلاد ! فقال : العفو عند المقدرة . فقال البساسيري : فقد قدرت فما عفوت ، وأنت صاحب البساسيري طيلسان ، وركبت الأفعال الشنيعة مع حرمي وأطفالي ، فكيف أعفو أنا ، وأنا صاحب السيف ؟
وأما الخليفة فإنه حمله قريش راكبا إلى معسكره وعليه السواد والبردة ، وبيده السيف ، وعلى رأسه اللواء ، وأنزله في خيمة ، وأخذ أرسلان خاتون ، ( زوجة الخليفة ، وهي ) ابنة أخي السلطان طغرلبك ، فسلمها إلى أبي عبد الله بن جردة ليقوم بخدمتها .
ونهبت دار الخلافة وحريمها أياما ، وسلم قريش الخليفة إلى ابن عمه مهارش بن المجلي ، وهو رجل فيه دين ، وله مروءة . فحمله في هودج وسار به إلى حديثة عانة ، فتركه بها ، وسار من كان مع الخليفة من خدمه وأصحابه إلى السلطان طغرلبك مستنفرين .
فلما وصل الخليفة إلى الأنبار شكا البرد ، فأنفذ إلى مقدمها يطلب منه ما يلبسه ، فأرسل له جبة فيها قطن ولحافا .
وأما فإنه ركب يوم عيد النحر ، وعبر إلى المصلى بالجانب [ ص: 156 ] الشرقي ، وعلى رأسه الألوية المصرية ، فأحسن إلى الناس ، وأجرى الجرايات على المتفقهة ، ولم يتعصب لمذهب ، وأفرد لوالدة الخليفة البساسيري دارا ، وكانت قد قاربت تسعين سنة ، وأعطاها جاريتين من جواريها للخدمة ، وأجرى لها الجراية ، وأخرج القائم بأمر الله محمود بن الأخرم إلى الكوفة ، وسقي الفرات أميرا .
وأما رئيس الرؤساء فأخرجه آخر ذي الحجة من محبسه بالحريم الطاهري ، مقيدا وعليه جبة صوف ، وطرطور من لبد أحمر ، وفي رقبته مخنقة جلود بعير ، وهو يقرأ : البساسيري قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء الآية .
وبصق أهل الكرخ في وجهه عند اجتيازه بهم ، لأنه كان يتعصب عليهم ، وشهر إلى حد النجمي ، وأعيد إلى معسكر ، وقد نصبت له خشبة ، وأنزل عن الجمل ، وألبس جلد ثور ، وجعلت قرونه على رأسه ، وجعل في فكيه كلابان من حديد ، وصلب ، فبقي يضطرب إلى آخر النهار ، ومات . البساسيري
وكان مولده في شعبان سنة سبعين وثلاثمائة ، وكانت شهادته عند سنة أربع عشرة وأربعمائة ، وكان حسن التلاوة للقرآن ، جيد المعرفة بالنحو . ابن ماكولا
وأما عميد العراق فقتله ، وكان فيه شجاعة وله فتوة ، وهو الذي بنى البساسيري رباط شيخ الشيوخ .
ولما خطب البساسيري للمستنصر العلوي بالعراق أرسل إليه بمصر يعرفه ما فعل ، وكان الوزير هناك أبا الفرج ابن أخي أبي القاسم المغربي ، وهو ممن هرب من وفي نفسه ما فيها ، فوقع فيه ، وبرد فعله ، وخوف عاقبته ، فتركت أجوبته مدة ، ثم عادت بغير الذي أمله ورجاه . البساسيري
[ ص: 157 ] وسار من البساسيري بغداذ إلى واسط والبصرة ، فملكهما ، وأراد قصد الأهواز ، فأنفذ صاحبها هزارسب بن بنكير إلى يطلب منه أن يصلح الأمر على مال يحمله إليه ، فلم يجب دبيس بن مزيد إلى ذلك ، وقال : لا بد من الخطبة البساسيري للمستنصر ، والسكة باسمه . فلم يفعل هزارسب ذلك ، ورأى أن البساسيري طغرلبك يمد هزارسب بالعساكر ، فصالحه ، وأصعد إلى واسط في مستهل شعبان من سنة إحدى وخمسين [ وأربعمائة ] ، وفارقه صدقة بن منصور بن الحسن الأسدي ، ولحق بهزارسب ، وكان قد ولي بعد أبيه على ما نذكره .
وأما أحوال السلطان طغرلبك وإبراهيم ينال ، فإن السلطان كان في قلة من العسكر ، كما ذكرناه ، وكان إبراهيم قد اجتمع معه كثير من الأتراك ، وحلف لهم أنه لا يصالح أخاه طغرلبك ، ولا يكلفهم المسير إلى العراق ، وكانوا يكرهونه لطول مقامهم ، وكثرة إخراجاتهم ، فلم يقو به طغرلبك ، وأتى إلى إبراهيم محمد وأحمد ابنا أخيه أرتاش في خلق كثير ، فازداد بهم قوة ، وازداد طغرلبك ضعفا ، فانزاح ( من بين يديه ) إلى الري ، وكاتب ألب أرسلان ، وياقوتي ، وقاورت بك ، أولاد أخيه داود ، وكان داود قد مات ، ( على ما نذكره سنة إحدى وخمسين [ وأربعمائة ] إن شاء الله تعالى ، وملك خراسان بعده ابنه ألب أرسلان ، فأرسل إليهم طغرلبك يستدعيهم إليه ، فجاءوا بالعساكر الكثيرة ، فلقي إبراهيم بالقرب من الري ، فانهزم إبراهيم ومن معه ، وأخذ أسيرا هو ومحمد وأحمد ولدا أخيه ، فأمر به فخنق بوتر قوسه تاسع جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين [ وأربعمائة ] ، وقتل ولدا أخيه معه .
وكان إبراهيم قد خرج على طغرلبك مرارا ، فعفا عنه ، وإنما قتله في هذه الدفعة لأنه علم أن جميع ما جرى على الخليفة كان بسببه ، فلهذا لم يعف عنه .
[ ص: 158 ] ولما قتل إبراهيم أرسل طغرلبك إلى هزارسب بالأهواز يعرفه ذلك ، وعنده ، فسار إلى السلطان ، فجهزه عميد الملك الكندري هزارسب تجهيز مثله .