في هذه السنة توفي ، صاحب المعز بن باديس إفريقية ، من مرض أصابه ، وهو [ ص: 173 ] ضعف الكبد ، وكانت مدة ملكه سبعا وأربعين سنة ، وكان عمره لما ملك إحدى عشرة سنة ، وقيل ثماني سنين وستة أشهر .
وكان رقيق القلب ، خاشعا ، متجنبا لسفك الدماء إلا في حد ، حليما ، يتجاوز عن الذنوب العظام ، ( حسن الصحبة مع عبيده وأصحابه ، مكرما لأهل العلم ، كثير العطاء لهم ) ، كريما ، وهب مرة مائة ألف دينار للمستنصر الزناتي وكان عنده وقد جاءه هذا المال ، فاستكثره ، فأمر به فأفرغ بين يديه ، ثم وهبه له ، فقيل له : لم أمرت بإخراجه من أوعيته ؟ قال : لئلا يقال لو رآه ما سمحت نفسه به ، وكان له شعر حسن .
ولما مات رثاه الشعراء ، فمنهم أبو الحسن بن رشيق فقال :
لكل حي وإن طال المدى هلك لا عز مملكة يبقى ، ولا ملك ولى المعز على أعقابه فرمى
أو كاد ينهد من أركانه الفلك مضى فقيدا ، وأبقى في خزائنه
هام الملوك ، وما أدراك ما ملكوا ما كان إلا حساما سله قدر
على الذين بغوا في الأرض وانهمكوا كأنه لم يخض للموت بحر وغى
، خضر البحار ، إذا قيست به ، برك ولم يجد بقناطير مقنطرة
قد أرخت باسمه إبريزها السكك روح المعز وروح الشمس قد قبضا
فانظر بأي ضياء يصعد الفلك
ولما توفي ملك بعده ابنه تميم ، وكان مولد تميم بالمنصورية التي هي مقره ، منتصف رجب سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة ، وولاه المهدية في صفر سنة خمس وأربعين وأربعمائة ، فأقام بها إلى أن وافاه أبو المعز ، لما انتزح عن القيروان من العرب ، وقام بخدمة أبيه ، وأظهر من طاعته وبره ما بان به كذب ما كان ينسب إليه .
[ ص: 174 ] ولما استبد بالملك بعد أبيه سلك طريقه في حسن السيرة ، ومحبة أهل العلم ، إلا أنه كان أصحاب البلاد قد طمعوا بسبب العرب ، وزالت الهيبة والطاعة عنهم في أيام المعز ، فلما مات ازداد طمعهم ، وأظهر كثير منهم الخلاف ، فممن أظهر الخلاف القائد حمو بن مليك ، صاحب سفاقس ، واستعان بالعرب ، وقصد المهدية ليحاصرها ، فخرج إليه تميم وصافه ، فاقتتلوا ، فانهزم حمو وأصحابه ، وكثر القتل فيهم ، ومضى حمو ونجا بنفسه ، وتفرقت خيله ورجاله ، وكان ذلك سنة خمس وخمسين [ وأربعمائة ] .
( وسار تميم ) إلى سوسة ، وكان أهلها قد خافوا أباه المعز وعصوا عليه ، فملكها وعفا عن أهلها .