ذكر بجاية . بناء مدينة
لما كانت هذه الوقعة بين بني حماد والعرب ، ( وقويت العرب ) ، اهتم تميم بن المعز لذلك ، وأصابه حزن شديد ، فبلغ ذلك الناصر ، وكان له وزير اسمه أبو بكر بن أبي الفتوح ، وكان رجلا جيدا يحب الاتفاق بينهم ، ويهوى دولة تميم ، فقال للناصر : ألم أشر عليك أن لا تقصد ابن عمك ، وأن تتفقا على العرب ، فإنكما لو اتفقتما لأخرجتما العرب .
فقال الناصر : لقد صدقت ، ولكن لا مرد لما قدر ، فأصلح ذات بيننا ، فأرسل الوزير رسولا من عنده إلى تميم يعتذر ، ويرغب في الإصلاح ، فقبل تميم قوله ، وأراد أن يرسل رسولا إلى الناصر ، فاستشار أصحابه ، فاجتمع رأيهم على محمد بن البعبع . وقالوا له : هذا رجل غريب ، وقد أحسنت إليه ، وحصل له منك الأموال والأملاك ، فأحضره ، وأعطاه مالا ودواب وعبيدا وأرسله ، فسار مع الرسول حتى وصل إلى بجاية ، وكانت حينئذ منزلا فيه رعية من البربر ، فنظر إليها محمد بن البعبع ، وقال في نفسه : إن هذا المكان يصلح أن يكون به مرسى ومدينة ، وسار حتى وصل إلى الناصر ، فلما أوصل الكتاب وأدى الرسالة قال للناصر : معي وصية إليك ، وأحب أن تخلي المجلس ، فقال الناصر : أنا لا أخفي عن وزيري شيئا ، فقال : بهذا أمرني الأمير تميم ، فقام الوزير أبو بكر وانصرف فلما خرج قال الرسول : يا مولاي إن الوزير مخامر عليك ، هواه مع الأمير تميم ، لا يخفي عنه من أمورك شيئا ، وتميم مشغول مع [ ص: 203 ] عبيده قد استبد بهم ، واطرح صنهاجة وغير هؤلاء ، ولو وصلت بعسكرك ما بت إلا فيها لبغض الجند والرعية لتميم ، وأنا أشير عليك بما تملك به المهدية وغيرها . وذكر له عمارة بجاية ، وأشار عليه أن يتخذها دار ملك ، ويقرب من بلاد إفريقية ، وقال له : أنا أنتقل إليك بأهلي ، وأدبر دولتك ، فأجابه الناصر إلى ذلك ، وارتاب بوزيره ، وسار مع الرسول إلى بجاية ، وترك الوزير بالقلعة .
فلما وصل الناصر والرسول إلى بجاية أراه موضع الميناء والبلد والدار السلطانية ، وغير ذلك ، فأمر الناصر من ساعته بالبناء والعمل ، وسر بذلك ، وشكره ، وعاهده على وزارته إذا عاد إليه ، ورجعا إلى القلعة فقال الناصر لوزيره : إن هذا الرسول محب لنا ، وقد أشار ببناء بجاية ، ويريد الانتقال إلينا ، فاكتب له جواب كتبه ، ففعل .
وسار الرسول ، وقد ارتاب به تميم ، حيث تجدد بناء بجاية عقيب مسيره إليهم ، وحضوره مع الناصر فيها ، وكان الرسول قد طلب من الناصر أن يرسل مع بعض ثقاته ليشاهد الأخبار ويعود بها ، فأرسل معه رسولا يثق به ، فكتب معه : إنني لما اجتمعت بتميم لم يسألني عن شيء قبل سؤاله عن بناء بجاية ، وقد عظم أمرها عليه ، واتهمني ، فانظر إلى من تثق به من العرب ترسلهم إلى موضع كذا ، فإني سائر إليهم مسرعا ، وقد أخذت عهود زويلة وغيرها على طاعتك . وسير الكتاب ، فلما رآه الناصر سلمه إلى الوزير ، فاستحسن الوزير ذلك ، وشكره ، وأثنى عليه ، وقال : لقد نصح وبالغ في الخدمة ، فلا تؤخر عنه إنفاذ العرب ليحضر معهم .
ومضى الوزير إلى داره ، وكتب نسخة من الكتاب ، وأرسل الكتاب الذي بخط الرسول إلى تميم ، وكتابا منه يذكر الحال من أوله إلى آخره . فلما وقف تميم على الكتاب عجب من ذلك ، وبقي يتوقع له سببا يأخذه به ، إلا أنه جعل عليه من يحرسه [ ص: 204 ] في الليل والنهار من حيث لا يشعر ، فأتى بعض أولئك الحرس إلى تميم ، وأخبره أن الرسول صنع طعاما ، وأحضر عنده الشريف الفهري ، وكان هذا الشريف من رجال تميم وخواصه ، فأحضره تميم ، فقال : كنت واصلا إليك ، وحدثه أن ابن البعبع الرسول دعاني ، فلما حضرت عنده قال : أنا في ذمامك ، أحب أن تعرفني مع من أخرج من المهدية ، فمنعته من ذلك وهو خائف ، فأوقفه تميم على الكتاب الذي بخطه ، وأمره بإحضاره ، فأحضره الشريف . فلما وصل إلى باب السلطان لقيه رجل بكتاب العرب الذين سيرهم الناصر ، ومعهم كتاب الناصر إليه يأمره بالحضور عنده ، فأخذ الكتاب وخرج الأمير تميم ، فلما رآه ابن البعبع سقطت الكتب منه ، فإذا عنوان أحدها : من إلى فلان ، فقال له الناصر بن علناس تميم : من أين هذه الكتب ؟ فأخذها وقرأها ، فقال الرسول ابن البعبع : العفو يا مولانا ! فقال : لا عفا الله عنك ! وأمر به فقتل وغرقت جثته .