ولما رأت قريش الإسلام يفشو ويزيد ، وأن المسلمين قووا بإسلام حمزة وعمر ، وعاد إليهم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي أمية من بما يكرهون من منع المسلمين عنهم وأمنهم عنده ، ائتمروا في أن يكتبوا بينهم كتابا يتعاقدون فيه على : أن لا ينكحوا النجاشي بني هاشم وبني المطلب ولا ينكحوا إليهم ، ولا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم شيئا . فكتبوا بذلك صحيفة وتعاهدوا على ذلك ، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا لذلك الأمر على أنفسهم ، فلما فعلت قريش ذلك انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب ، فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا .
وخرج من بني هاشم أبو لهب بن عبد المطلب إلى قريش ، فلقي هندا بنت عتبة فقال : كيف رأيت نصري اللات والعزى ؟ قالت : لقد أحسنت . فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا لا يصل إلى أحد منهم شيء إلا سرا .
وذكروا أن أبا جهل لقي ، ومعه قمح يريد به عمته حكيم بن حزام بن خويلد ، وهي عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خديجة الشعب ، فتعلق به وقال : والله لا تبرح حتى أفضحك . فجاء أبو البختري بن هشام فقال : ما لك وله ؟ عنده طعام لعمته أفتمنعه أن يحمله إليها ؟ خل سبيله . فأبى أبو جهل ، فنال منه ، فضربه أبو البختري بلحي جمل فشجه ووطئه وطأ شديدا ، وحمزة ينظر إليهم ، وهم يكرهون أن يبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فيشمت بهم هو والمسلمون . ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو الناس سرا وجهرا ، والوحي متتابع إليه ، فبقوا كذلك ثلاث سنين .
[ ص: 683 ] وقام في نقض الصحيفة نفر من قريش ، وكان أحسنهم بلاء فيه هشام بن عمرو بن الحارث بن عمرو بن لؤي ، وهو ابن أخي نضلة بن هشام بن عبد مناف لأمه ، وكان يأتي بالبعير قد أوقره طعاما ليلا ويستقبل به الشعب ويخلع خطامه فيدخل الشعب . فلما رأى ما هم فيه وطول المدة عليهم ، مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي ، أخي أم سلمة ، وكان شديد الغيرة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ، وكانت أمه ، فقال : يا عاتكة بنت عبد المطلب زهير أرضيت أن تأكل الطعام ، وتلبس الثياب ، وتنكح النساء وأخوالك حيث علمت ؟ أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم - يعني أبا جهل - ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه ما أجابك أبدا . فماذا أصنع ؟ وإنما أنا رجل واحد ، والله لو كان معي رجل آخر لنقضتها . فقال : قد وجدت رجلا . قال : ومن هو ؟ قال : أنا . قال زهير : ابغنا ثالثا ، فذهب إلى المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف فقال له : أرضيت أن يهلك بطنان من بني عدي بن عبد مناف وأنت شاهد ذلك موافق فيه ؟ أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعا قال : ما أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد . قال : قد وجدت ثانيا . قال : من هو ؟ قال : أنا قال : ابغنا ثالثا . قال : قد فعلت . قال : من هو ؟ قال : زهير بن أبي أمية . قال : ابغنا رابعا . فذهب إلى أبي البختري بن هشام ، وقال له نحوا مما قال للمطعم ، قال : وهل من أحد يعين على هذا ؟ قال : نعم . قال : من هو ؟ قال : أنا وزهير والمطعم . قال : ابغنا خامسا . فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد ، فكلمه وذكر له قرابتهم ، قال : وهل على هذا الأمر معين ؟ قال : نعم ، وسمى له القوم ، فاتعدوا خطم الحجون الذي بأعلى مكة ، فاجتمعوا هنالك وتعاهدوا على القيام في نقض الصحيفة . فقال زهير : أنا أبدأكم .
فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم ، وغدا زهير فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس فقال : يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم ؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة . قال أبو جهل : كذبت [ ص: 684 ] والله لا تشق . قال زمعة بن الأسود : أنت والله أكذب ، ما رضينا بها حين كتبت . قال أبو البختري : صدق زمعة ، لا نرضى ما كتب فيها . قال المطعم بن عدي : صدقتما وكذب من قال غير ذلك . وقال نحوا من ذلك . قال هشام بن عمرو أبو جهل : هذا أمر قضي بليل . وأبو طالب في ناحية المسجد .
فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا ما كان : باسمك اللهم ، كانت تفتتح بها كتبها ، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة ، فشلت يده .
وقيل : كان سبب خروجهم من الشعب أن الصحيفة لما كتبت وعلقت بالكعبة اعتزل الناس بني هاشم وبني المطلب ، وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو طالب ومن معهما بالشعب ثلاث سنين ، فأرسل الله الأرضة وأكلت ما فيها من ظلم وقطيعة رحم ، وتركت ما فيها من أسماء الله تعالى ، فجاء جبرائيل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعلمه بذلك فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمه أبي طالب ، وكان أبو طالب لا يشك في قوله ، فخرج من الشعب إلى الحرم ، فاجتمع الملأ من قريش ، وقال : إن ابن أخي أخبرني أن الله أرسل على صحيفتكم الأرضة ، فأكلت ما فيها من قطيعة رحم وظلم ، وتركت اسم الله تعالى ، فأحضروها ، فإن كان صادقا علمتم أنكم ظالمون لنا قاطعون لأرحامنا ، وإن كان كاذبا علمنا أنكم على حق وأنا على باطل .
فقاموا سراعا وأحضروها ، فوجدوا الأمر كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقويت نفس أبي طالب واشتد صوته وقال : قد تبين لكم أنكم أولى بالظلم والقطيعة . فنكسوا رءوسهم ثم قالوا : إنما يأتوننا بالسحر والبهتان ، وقام أولئك النفر في نقضها كما ذكرنا ، وقال أبو طالب في أمر الصحيفة وأكل الأرضة ما فيها من ظلم وقطيعة رحم أبياتا منها :
وقد كان في أمر الصحيفة عبرة متى ما يخبر غائب القوم يعجب محا الله منهم كفرهم وعقوقهم
وما نقموا من ناطق الحق معرب فأصبح ما قالوا من الأمر باطلا
ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب