ذكر الفرنج مدينة صور حصر
لما تفرقت العساكر اجتمعت الفرنج على قصد مدينة صور وحصرها ، فساروا إلى الملك بغدوين ، صاحب القدس ، وحشدوا ، وجمعوا ، ونازلوها وحاصروها في الخامس والعشرين من جمادى الأولى ، وعملوا عليها ثلاثة أبراج خشب ، علو البرج سبعون ذراعا ، وفي كل برج ألف رجل ، ونصبوا عليها المجانيق ، وألصقوا أحدها إلى سور البلد ، وأخلوه من الرجال .
وكانت صور للآمر بأحكام الله العلوي ونائبه بها عز الملك الأعز ، فأحضر أهل البلد ، واستشارهم في حيلة يدفعون بها شر الأبراج عنهم ، فقام شيخ من أهل طرابلس وضمن على نفسه إحراقها ، وأخذ معه ألف رجل بالسلاح التام ، ومع كل رجل منهم حزمة حطب ، فقاتلوا الفرنج إلى أن وصلوا إلى البرج الملتصق بالمدينة ، فألقى الحطب من جهاته ، وألقى فيها النار ، ثم خاف أن يشتغل الفرنج الذين في البرج بإطفاء [ ص: 590 ] النار ، ويتخلصوا ، فرماهم بجرب كان قد أعدها ، مملوءة من العذرة ، فلما سقطت عليهم اشتغلوا بها وبما نالهم من سوء الرائحة والتلويث ، فتمكنت النار منه ، فهلك كل من به ، إلا القليل ، وأخذ منه المسلمون ما قدروا عليه من الكلاليب ، ثم أخذ سلال العنب الكبار ، وترك فيها الحطب الذي قد سقاه بالنفط والزفت ، والكتان ، والكبريت ، ورماهم بسبعين سلة ، وأحرق البرجين الآخرين .
ثم إن أهل صور حفروا سراديب تحت الأرض ليسقط فيها الفرنج إذا زحفوا إليهم ، ولينخسف برج إن عملوه وسيروه إليهم ، فاستأمن نفر من المسلمين إلى الفرنج ، وأعلموهم بما عملوه ، فحذروا منها .
وأرسل أهل البلد إلى ، صاحب أتابك طغتكين دمشق ، يستنجدونه ، ويطلبونه ليسلموا البلد إليه ، فسار في عساكره إلى نواحي بانياس ، وسير إليهم نجدة مائتي فارس ، فدخلوا البلد ، فامتنع من فيه بهم ، واشتد قتال الفرنج خوفا من اتصال النجدات ، ففني نشاب الأتراك ، فقاتلوا بالخشب ، وفني النفط ، فظفروا بسرب تحت الأرض فيه نفط لا يعلم من خزنه .
ثم إن عز الملك ، صاحب صور ، أرسل الأموال إلى ليكثر من الرجال ، ويقصدهم ليملك البلد ، فأرسل طغتكين طائرا فيه رقعة ليعلمه وصول المال ، ويأمره أن يقيم مركبا بمكان ذكره لتجيء الرجال إليه ، فسقط الطائر على مركب طغتكين الفرنج ، فأخذه رجلان : مسلم وفرنجي ، فقال الفرنجي : نطلقه لعل فيه فرجا لهم ، فلم يمكنه المسلم ، وحمله إلى الملك بغدوين ، فلما وقف عليه سير مركبا إلى المكان الذي ذكره ، وفيه جماعة من المسلمين الذين استأمنوا إليه من طغتكين صور ، فوصل إليهم العسكر ، فكلموهم بالعربية ، فلم ينكروهم ، وركبوا معهم ، فأخذوهم أسرى ، وحملوهم إلى الفرنج ، فقتلوهم وطمعوا في أهل صور ، فكان يغير على أعمال طغتكين الفرنج من جميع جهاتها ، وقصد حصن الحبيس في السواد ، من أعمال دمشق ، وهو للفرنج ، [ ص: 591 ] فحصره ، وملكه بالسيف ، وقتل كل من فيه ، وعاد إلى الفرنج الذين على صور .
وكان يقطع الميرة عنهم في البر ، فأحضروها في البحر ، وخندقوا عليهم ، ولم يخرجوا إليه ، فسار إلى صيدا ، وأغار على ظاهرها ، فقتل جماعة من البحرية ، وأحرق نحو عشرين مركبا على الساحل ، وهو مع ذلك يواصل أهل صور بالكتب يأمرهم بالصبر والفرنج يلازمون قتالهم ، وقاتل أهل صور قتال من أيس من الحياة ، فدام القتال إلى أوان إدراك الغلات ، فخاف الفرنج أن يستولي على غلات بلادهم ، فساروا عن البلد ، عاشر شوال ، إلى عكة ، وعاد عسكر طغتكين إليه ، وأعطاهم طغتكين أهل صور الأموال وغيرها ، ثم أصلحوا ما تشعث من سورها وخندقها ، وكان الفرنج قد طموه .