وملكه بزاعة ، وما فعله بالمسلمين وصول ملك
قد ذكرنا سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة خروج ملك الروم من بلاده ، واشتغاله [ ص: 90 ] بالفرنج وابن ليون ، فلما دخلت هذه السنة وصل إلى الشام ، وخافه الناس خوفا عظيما ، وقصد بزاعة فحصرها ، وهي مدينة لطيفة على ستة فراسخ من حلب ، فمضى جماعة من أعيان حلب إلى أتابك زنكي ، وهو يحاصر حمص ، فاستغاثوا به واستنصروه ، فسير معهم كثيرا من العساكر ، فدخلوا إلى حلب ليمنعوها من الروم إن حصروها .
ثم إن ملك الروم قاتل بزاعة ونصب عليها منجنيقات ، وضيق على من بها ، فملكها بالأمان في الخامس والعشرين من رجب ، ثم غدر بأهلها فقتل منهم وأسر وسبى .
وكان عدة من جرح فيها من أهلها خمسة آلاف وثمانمائة نفس ، وتنصر قاضيها وجماعة من أعيانها نحو أربعمائة نفس .
وأقام الروم بعد ملكها عشرة أيام يتطلبون من اختفى ، فقيل لهم :
إن جمعا كثيرا من أهل هذه الناحية قد نزلوا إلى المغارات ، فدخنوا عليهم ، وهلكوا في المغاور .
ثم رحلوا إلى حلب فنزلوا على فريق ، ومعهم الفرنج الذين بساحل الشام ، وزحفوا إلى حلب من الغد في خيلهم ، ورجلهم ، فخرج إليهم أحداث حلب ، فقاتلوهم قتالا شديدا ، فقتل من الروم وجرح خلق كثير ، وقتل بطريق جليل القدر عندهم ، وعادوا خاسرين ، وأقاموا ثلاثة أيام ، فلم يروا فيها طمعا ، فرحلوا إلى قلعة الأثارب ، فخاف من فيها من المسلمين ، فهربوا عنها تاسع شعبان ، فملكها الروم وتركوا فيها سبايا بزاعة والأسرى ، ومعهم جمع من الروم يحفظونهم ويحمون القلعة ، وساروا ، فلما سمع الأمير أسوار بحلب ذلك رحل فيمن عنده من العسكر إلى الأثارب ، فأوقع بمن فيها من الروم فقتلهم ، وخلص الأسرى والسبي وعاد إلى حلب .
وأما عماد الدين زنكي فإنه فارق حمص ، وسار إلى سلمية فنازلها ، وعبر ثقله الفرات إلى الرقة ، وأقام جريدة ليتبع الروم ويقطع عنهم الميرة .
[ ص: 91 ] وأما الروم فإنهم قصدوا قلعة شيزر ، فإنها من أمنع الحصون ، وإنما قصدوها لأنها لم تكن لزنكي ، فلا يكون له في حفظها الاهتمام العظيم ، وإنما كانت للأمير أبي العساكر سلطان بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني ، فنازلوها وحصروها ، ونصبوا عليها ثمانية عشر منجنيقا ، فأرسل صاحبها إلى زنكي يستنجده ، فسار إليه ، فنزل على نهر العاصي بالقرب منها بينها وبين حماة ، وكان يركب كل يوم ويسير إلى شيزر هو وعساكره ، ويقفون بحيث يراهم الروم ، ويرسل السرايا فتأخذ من ظفرت به منهم .
ثم إنه أرسل ملك الروم يقول له :
إنكم قد تحصنتم مني بهذه الجبال ، فانزلوا منها إلى الصحراء حتى نلتقي ، فإن ظفرت بكم أرحت المسلمين منكم ، وإن ظفرتم استرحتم وأخذتم شيزر وغيرها .
ولم يكن له بهم قوة ، وإنما كان يرهبهم بهذا القول وأشباهه ، فأشار فرنج الشام على ملك الروم بمصافته ، وهونوا أمره عليه فلم يفعل ، وقال :
أتظنون أنه ليس له من العسكر إلا ما ترون ؟ إنما هو يريد أن تلقوه فيجيئه من نجدات المسلمين ما لا حد له .
وكان زنكي يرسل أيضا إلى ملك الروم يوهمه بأن فرنج الشام خائفون منه ، فلو فارق مكانه لتخلوا عنه ، ويرسل إلى فرنج الشام يخوفهم من ملك الروم ويقول لهم :
إن ملك بالشام حصنا واحدا ملك بلادكم جميعا ، فاستشعر كل من صاحبه ، فرحل ملك الروم عنها في رمضان ، وكان مقامه عليها أربعة وعشرين يوما ، وترك المجانيق وآلات الحصار بحالها ، فسار أتابك [زنكي ] يتبع ساقه العسكر ، فظفر بكثير ممن تخلف منهم ، وأخذ جميع ما تركوه .
ولما كان الفرنج على بزاعة أرسل زنكي القاضي كمال الدين أبا الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري إلى السلطان مسعود يستنجده ويطلب العساكر ، فمضى إلى بغداد ، وأنهى الحال إلى السلطان ، وعرفه عاقبة الإهمال ، وأنه ليس بينه وبين الروم إلا أن يملكوا حلب وينحدروا مع الفرات إلى بغداد ، فلم يجد عنده حركة ، فوضع إنسانا من أصحابه يوم جمعة ، فمضى إلى جامع القصر ومعه جماعة من رنود العجم ، وأمر أن يثور بهم إذا صعد الخطيب المنبر ويصيح ويصيحوا معه :
[ ص: 92 ] واإسلاماه ، وادين محمداه ، ويشق ثيابه ، ويرمي عمامته من رأسه ، ويخرج إلى دار السلطان والناس معه يستغيثون كذلك ، ووضع إنسانا آخر يفعل بجامع السلطان مثله .
فلما صعد الخطيب المنبر قام ذلك الرجل ، ولطم رأسه ، وألقى عمامته ، وشق ثوبه وأولئك معه ، وصاحوا ، فبكى الناس ، وتركوا الصلاة ، ولعنوا السلطان ، وساروا من الجامع يتبعون الشيخ إلى دار السلطان ، فوجدوا الناس في جامع السلطان كذلك ، وأحاط الناس بدار السلطان يستغيثون ويبكون ، فخاف السلطان فقال :
أحضروا إلي فأحضر ، فقال ابن الشهرزوري كمال الدين : لقد خفت منه مما رأيت ، فلما دخلت عليه قال لي : أي فتنة أثرت ؟ فقلت : ما فعلت شيئا ، أنا كنت في بيتي ، وإنما الناس يغارون للدين والإسلام ، ويخافون عاقبة هذا التواني ، فقال : اخرج إلى الناس ففرقهم عنا ، واحضر غدا ، واختر من العسكر من تريد ، ففرقت الناس ، وعرفتهم ما أمر به من تجهيز العساكر ، وحضرت من الغد إلى الديوان ، فجهزوا لي طائفة عظيمة من الجيش ، فأرسلت إلى نصير الدين بالموصل أعرفه ذلك ، وأخوفه من العسكر إن طرقوا البلاد ، فإنهم يملكونها ، فأعاد الجواب يقول :
البلاد لا شك مأخوذة ، فلأن يأخذها المسلمون خير من أن يأخذها الكافرون .
فشرعنا في التحميل للرحيل ، وإذ قد وصلني كتاب أتابك زنكي من الشام يخبر برحيل ملك الروم ، ويأمرني بأن لا أستصحب من العسكر أحدا ، فعرفت السلطان ذلك فقال :
العسكر قد تجهز ، ولا بد من الغزاة إلى الشام ، فبعد الجهد وبذل الخدمة العظيمة له ولأصحابه أعاد العسكر .
ولما عاد ملك الروم عن شيزر مدح الشعراء أتابك زنكي وأكثروا ، فمن ذلك ما قاله المسلم بن خضر بن قسيم الحموي من قصيدة أولها :
بعزمك أيها الملك العظيم تذل لك الصعاب وتستقيم
ومنها :ألم تر أن كلب الروم لما تبين أنه الملك الرحيم
فجاء يطبق الفلوات خيلا كأن الجحفل الليل البهيم
[ ص: 93 ] وقد نزل الزمان على رضاه ودان لخطبه الخطب العظيم
فحين رميته بك في خميس تيقن أن ذلك لا يدوم
وأبصر في المفاضة منك جيشا فأحرب لا يسير ولا يقيم
كأنك في العجاج شهاب نور توقد وهو شيطان رجيم
أراد بقاء مهجته فولى وليس سوى الحمام له حميم
اللهم بحق من أنزلته عليه إن قضيت بمجيء ملك الروم فاقبضني إليك ! فتوفي بعد أيام .