ذكر ، وهي غزوة الأحزاب غزوة الخندق
وكانت في شوال ، وكان سببها أن نفرا من يهود من بني النضير ، منهم : عبد الله بن سلام بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب ، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وغيرهم ، حزبوا الأحزاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : نكون معكم حتى نستأصله ، فأجابوهم إلى ذلك ، ثم أتوا على غطفان ، فدعوهم إلى حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبروهم أن قريشا معهم على ذلك ، فأجابوهم ، فخرجت قريش وقائدها ، وخرجت أبو سفيان بن حرب غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني فزارة ، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في مرة ، ومسعر بن رخيلة الأشجعي في الأشجع .
فلما سمع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بحفر الخندق ، وأشار به ، وكان أول مشهد شهده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يومئذ حر ، فعمل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغبة في الأجر ، وحثا للمسلمين ، وتسلل عنه جماعة من المنافقين بغير علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله في ذلك : سلمان الفارسي قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا الآية .
وكان الرجل من المسلمين إذا نابته نائبة لحاجة لابد منها يستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقضي حاجته ثم يعود ، فأنزل الله - تعالى : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله الآية .
وقسم الخندق بين المسلمين ، فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان ، كل يدعيه أنه منهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : سلمان منا ، سلمان من أهل البيت . وجعل لكل عشرة أربعين ذراعا ، فكان سلمان ، وحذيفة ، ، والنعمان بن مقرن وعمرو بن عوف ، وستة [ ص: 66 ] من الأنصار - يعملون ، فخرجت عليهم صخرة كسرت المعول ، فأعلموا النبي - صلى الله عليه وسلم - فهبط إليها ومعه سلمان ، فأخذ المعول ، وضرب الصخرة ضربة صدعها ، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة ، فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون ، ثم الثانية كذلك ، ثم الثالثة كذلك ، ثم خرج وقد صدعها ، فسأله سلمان عما رأى من البرق ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أضاءت الحيرة وقصور كسرى في البرقة الأولى ، وأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة عليها ، وأضاء لي في الثانية القصور الحمر من أرض الشام والروم ، وأخبرني أن أمتي ظاهرة عليها ، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء ، وأخبرني أن أمتي ظاهرة عليها ، فأبشروا ، فاستبشر المسلمون .
وقال المنافقون : ألا تعجبون ؟ يعدكم الباطل ، ويخبركم أنه ينظر من يثرب الحيرة ومدائن كسرى ، وأنها تفتح لكم ، وأنتم لا تستطيعون أن تبرزوا ، فأنزل الله : وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا .
فأقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة ، في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من كنانة وتهامة ، وأقبلت غطفان ومن تابعهم حتى نزلوا إلى جنب أحد ، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون فجعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف ، فنزل هناك ، ورفع الذراري والنساء في الآطام .
وخرج حيي بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد سيد قريظة ، وكان قد وادع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قومه ، فأغلق كعب حصنه ولم يأذن له ، وقال : إنك امرؤ مشئوم ، وقد عاهدت محمدا ولم أر منه إلا الوفاء . قال حيي : يا كعب ، قد جئتك بعز الدهر وببحر طام ، جئتك بقريش وقادتها وسادتها ، وغطفان بقادتها ، وقد عاهدوني أنهم لا يبرحون حتى يستأصلوا محمدا وأصحابه . قال كعب : جئتني بذل الدهر ، وبجهام قد هراق ماءه يرعد ويبرق وليس فيه شيء ، ويحك يا حيي ! دعني ومحمدا . ولم يزل معه يفتله في الذروة والغارب حتى حمله على الغدر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ففعل ونكث العهد ، وعاهده حيي إن عادت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني [ ص: 67 ] ما أصابك . فعظم عند ذلك البلاء ، واشتد الخوف ، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم ، ونجم النفاق من بعض المنافقين ، وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمشركون عليه بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر ، ولم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالنبل .
فلما اشتد البلاء بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف المري ، قائدي غطفان ، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجابا إلى ذلك ، فاستشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ ، فقالا : يا رسول الله ، شيء تحب أن تصنعه ، أم شيء أمرك الله به ، أو شيء تصنعه لنا ؟ قال : بل لكم ، رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم . فقال وسعد بن عبادة : قد كنا نحن وهم على الشرك ، ولا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة إلا قرى أو بيعا ، فحين أكرمنا الله بالإسلام نعطيهم أموالنا ! ما نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم . سعد بن معاذ
فترك ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ثم إن فوارس من قريش ، منهم : عمرو بن عبد ود أحد بني عامر بن لؤي ، ، وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب ، ونوفل بن عبد الله ، وضرار بن الخطاب الفهري - خرجوا على خيولهم ، واجتازوا ببني كنانة وقالوا : تجهزوا للحرب وستعلمون من الفرسان . وكان عمرو بن عبد ود قد شهد بدرا كافرا ، وقاتل حتى كثرت الجراح فيه ، فلم يشهد أحدا وشهد الخندق معلما حتى يعرف مكانه ، وأقبل هو وأصحابه حتى وقفوا على الخندق ، ثم تيمموا مكانا ضيقا فاقتحموه ، فجالت بهم خيولهم في السبخة بين الخندق وسلع .
وخرج في نفر من المسلمين ، فأخذوا عليهم الثغرة ، وكان علي بن أبي طالب عمرو قد خرج معلما ، فقال له علي : يا عمرو ، إنك عاهدت أن لا يدعوك رجل من قريش إلى خصلتين إلا أخذت إحداهما ؟ قال : أجل . قال له علي : فإني أدعوك إلى الله والإسلام . قال : لا حاجة لي بذلك . قال : فإني أدعوك إلى النزال . قال : والله ما أحب أن أقتلك . قال علي : ولكني أحب أن أقتلك . فحمي عمرو عند ذلك ، فنزل عن فرسه وعقره ، ثم أقبل على علي ، فتجاولا ، وقتله علي ، وخرجت خيلهم منهزمة ، وقتل مع عمرو رجلان ، قتل علي أحدهما ، وأصاب آخر سهم ، فمات منه بمكة . [ ص: 68 ] ورمي بسهم قطع أكحله ، رماه سعد بن معاذ حبان بن قيس بن العرقة بن عبد مناف ، من بني معيص ، من عامر بن لؤي ، والعرقة أمه ، وإنما قيل لها العرقة لطيب ريح عرقها ، وهي قلابة بنت سعد بن سهم ، وهي أم عبد مناف بن الحارث . فلما رمى سعدا قال : خذها وأنا ابن العرقة . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : عرق الله وجهك في النار ، ولم يقطع الأكحل من أحد إلا مات . فقال سعد : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها ، فإنه لا قوم أحب إلي أن أقاتلهم من قوم آذوا نبيك وكذبوه ، اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا فاجعله لي شهادة ، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة . وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية .
وقيل : إن الذي رمى سعدا هو أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم ، فلما قال سعد ما قال انقطع الدم .
وكانت - صلى الله عليه وسلم - في فارع ، حصن صفية عمة النبي ، وكان حسان بن ثابت حسان فيه مع النساء ؛ لأنه كان جبانا ، قالت : فأتانا آت من اليهود فقلت لحسان : هذا اليهودي يطوف بنا ، ولا نأمنه أن يدل على عوراتنا ، فانزل إليه فاقتله . فقال : والله ما أنا بصاحب هذا . قالت : فأخذت عمودا ونزلت إليه فقتلته ، ثم رجعت فقلت لحسان : انزل إليه فخذ سلبه ؛ فإنني يمنعني منه أنه رجل . فقال : والله ما لي بسلبه من حاجة .
ثم إن نعيم بن مسعود الأشجعي أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، إني قد أسلمت ولم يعلم قومي ، فمرني بما شئت . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إنما أنت رجل واحد ، فخذل عنا ما استطعت ، فإن الحرب خدعة . فخرج حتى أتى بني قريظة ، وكان نديما لهم في الجاهلية ، فقال لهم : قد عرفتم ودي إياكم . فقالوا : لست عندنا بمتهم . قال : قد ظاهرتم قريشا وغطفان على حرب محمد ، وليسوا كأنتم ، البلد بلدكم ، به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، لا تقدرون على أن تتحولوا منه ، وإن قريشا وغطفان إن رأوا [ ص: 69 ] نهزة وغنيمة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين محمد ، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم ، فلا تقاتلوا حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم ثقة لكم حتى تناجزوا محمدا . قالوا : أشرت بالنصح .
ثم خرج حتى أتى قريشا ، فقال لأبي سفيان ومن معه : قد عرفتم ودي إياكم ، وفراقي محمدا ، وقد بلغني أن قريظة ندموا ، وقد أرسلوا إلى محمد : هل يرضيك عنا أن نأخذ من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكم ، فتضرب أعناقهم ، ثم نكون معك على من بقي منهم ؟ فأجابهم : أن نعم . فإن طلبت قريظة منكم رهنا من رجالكم ، فلا تدفعوا إليهم رجلا واحدا . ثم خرج حتى أتى غطفان فقال : أنتم أهلي وعشيرتي . وقال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم .
فلما كان ليلة السبت من شوال سنة خمس كان مما صنع الله لرسوله أن أرسل أبو سفيان ورءوس غطفان إلى قريظة في نفر من عكرمة بن أبي جهل قريش وغطفان ، وقالوا لهم : إنا لسنا بدار مقام ، قد هلك الخف والحافر ، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا . فأرسلوا إليهم : إن اليوم السبت لا نعمل فيه شيئا ، ولسنا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا ثقة لنا ، فإنا نخشى أن ترجعوا إلى بلادكم ، وتتركونا والرجل ونحن ببلاده . فلما أبلغتهم الرسل هذا الكلام ، قالت قريش وغطفان : والله لقد صدق نعيم بن مسعود ، فأرسلوا إلى قريظة : إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا . فقالت قريظة عند ذلك : إن الذي ذكر نعيم بن مسعود لحق . وخذل الله بينهم ، وبعث الله عليهم ريحا في ليال شاتية شديدة البرد ، فجعلت تكفأ قدورهم ، وتطرح أبنيتهم .
فلما انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - اختلاف أمرهم دعا ليلا ، فقال : انطلق إليهم ، وانظر حالهم ، ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا . قال حذيفة بن اليمان حذيفة : فذهبت فدخلت فيهم ، والريح وجنود الله تفعل فيهم ما تفعل ، لا يقر لهم قدر ولا بناء ولا نار . فقام أبو سفيان فقال : يا معشر قريش ، لينظر الرجل أمر جليسه ، قال : فأخذت بيد الرجل الذي بجانبي فقلت : من أنت ؟ قال : أنا فلان . ثم قال أبو سفيان : والله لقد هلك الخف والحافر ، وأخلفتنا قريظة ، ولقينا من هذه [ ص: 70 ] الريح ما ترون ، فارتحلوا فإني مرتحل . ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ، ثم ضربه فوثب على ثلاث قوائم ، ولولا عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلي أن لا أحدث شيئا لقتلته .
قال حذيفة : فرجعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه ، فأدخلني بين رجليه ، وطرح علي طرف المرط ، فلما سلم خبرته الخبر .
وسمعت غطفان بما فعلت قريش ، فعادوا راجعين إلى بلادهم ، فلما عادوا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : الآن نغزوهم ولا يغزوننا . فكان كذلك حتى فتح الله مكة .