[ ص: 308 ] ذكر هزيمة الفرنج  وفتح حارم  
في هذه السنة ، في شهر رمضان ، فتح   نور الدين محمود بن زنكي  قلعة حارم  من الفرنج     ; وسبب ذلك أن  نور الدين  لما عاد منهزما من البقيعة  ، تحت حصن الأكراد  ، كما ذكرناه قبل ، فرق الأموال والسلاح ، وغير ذلك من الآلات على ما تقدم ، فعاد العسكر كأنهم لم يصابوا وأخذوا في الاستعداد للجهاد والأخذ بثأره . 
واتفق مسير بعض الفرنج  مع ملكهم إلى مصر  ، كما ذكرناه ، فأراد أن يقصد بلادهم ليعودوا عن مصر  ، فأرسل إلى أخيه   قطب الدين مودود  ، صاحب الموصل  وديار الجزيرة  ، وإلى  فخر الدين قرا أرسلان  ، صاحب حصن كيفا  ، وإلى  نجم الدين ألبي  ، صاحب ماردين  ، وغيرهم من أصحاب الأطراف يستنجدهم ، فأما  قطب الدين  فإنه جمع عسكره وسار مجدا ، وفي مقدمته  زين الدين علي  أمير جيشه ، وأما  فخر الدين  ، صاحب الحصن ، فبلغني عنه أنه قال له ندماؤه وخواصه : على أي شيء عزمت ؟ فقال : على القعود ، فإن  نور الدين  قد تحشف من كثرة الصوم والصلاة ، وهو يلقي نفسه والناس معه في المهالك ، فكلهم وافقه على هذا الرأي ، فلما كان الغد أمر بالتجهز للغزاة ، فقال له أولئك : ما عدا مما بدا ؟ فارقناك أمس على حالة ، فنرى اليوم ضدها ؟ فقال : إن  نور الدين  قد سلك معي طريقا إن لم أنجده خرج أهل بلادي عن طاعتي ، وأخرجوا البلاد عن يدي ، فإنه قد كاتب زهادها وعبادها والمنقطعين عن الدنيا ، يذكر لهم ما لقي المسلمون من الفرنج  ، وما نالهم من القتل والأسر ، ويستمد منهم الدعاء ، ويطلب أن يحثوا المسلمين على الغزاة ، فقد قعد كل واحد من أولئك ، ومعه أصحابه وأتباعه ، وهم يقرؤون كتب  نور الدين  ، ويبكون ويلعنونني ، ويدعون علي ، فلا بد من المسير إليه ، ثم تجهز وسار بنفسه . 
وأما  نجم الدين  فإنه سير عسكرا ، فلما اجتمعت العساكر سار نحو حارم  ،   [ ص: 309 ] فحصرها ، ونصب عليها المجانيق ، وتابع الزحف إليها ، فاجتمع من بقي بالساحل من الفرنج  ، فجاءوا في حدهم وحديدهم ، وملوكهم وفرسانهم ، وقسيسيهم ، ورهبانهم ، وأقبلوا إليه من كل حدب ينسلون ، وكان المقدم عليهم  البرنس بيمند  ، صاحب أنطاكية  ،  وقمص  ، صاحب طرابلس  وأعمالها ،  وابن جوسلين  ، وهو من مشاهير الفرنج  ، والدوك ، وهو مقدم كبير من الروم  ، وجمعوا  الفارس  والراجل ، فلما قاربوه رحل عن حارم  إلى أرتاح طمعا أن يتبعوه ، فيتمكن منهم ; لبعدهم عن بلادهم إذا لقوه ، فساروا ، فنزلوا على غمر ، ثم علموا عجزهم عن لقائه ، فعادوا إلى حارم  ، فلما عادوا تبعهم  نور الدين  في أبطال المسلمين على تعبئة الحرب . 
فلما تقاربوا اصطفوا للقتال ، فبدأ الفرنج  بالحملة على ميمنة المسلمين ، وفيها عسكر حلب  وصاحب الحصن ، فانهزم المسلمون فيها ، وتبعهم الفرنج  ، فقيل كانت تلك الهزيمة من الميمنة على اتفاق ورأي دبروه ، وهو أن يتبعهم الفرنج  فيبعدوا عن راجلهم ، فيميل عليهم من بقي من المسلمين بالسيوف ، فيقتلوهم ، فإذا عاد فرسانهم لم يلقوا راجلا يلجأون إليه ، ولا وزرا يعتمدون عليه ، ويعود المنهزمون في آثارهم ، فيأخذهم المسلمون من بين أيديهم ومن خلفهم ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، فكان الأمر على ما دبروه : فإن الفرنج  لما تبعوا المنهزمين عطف  زين الدين علي  في عسكر الموصل  على راجل الفرنج  ، فأفناهم قتلا وأسرا ، وعاد خيالتهم ، ولم يمعنوا في الطلب خوفا على راجلهم ، فعاد المنهزمون في آثارهم ، فلما وصل الفرنج  رأوا رجالهم قتلى وأسرى ، فسقط في أيديهم ، ورأوا أنهم قد هلكوا وبقوا في الوسط قد أحدق بهم المسلمون من كل جانب ، فاشتدت الحرب ، وقامت على ساق ، وكثر القتلى في الفرنج  ، وتمت عليهم الهزيمة ، فعدل حينئذ المسلمون عن القتل إلى الأسر ، فأسروا ما لا يحد ، وفي جملة الأسرى صاحب أنطاكية  والقمص  ، صاحب طرابلس  ، وكان شيطان الفرنج  ، وأشدهم شكيمة على المسلمين ،  والدوك  مقدم الروم  ،  وابن جوسلين  ، وكانت عدة القتلى تزيد على عشرة آلاف قتيل . 
وأشار المسلمون على  نور الدين  بالمسير إلى أنطاكية  وتملكها لخلوها من حام   [ ص: 310 ] يحميها ومقاتل يذب عنها ، فلم يفعل ، وقال : أما المدينة فأمرها سهل ، وأما القلعة فمنيعة ، وربما سلموها إلى ملك الروم    ; لأن صاحبها ابن أخيه ومجاورة بيمند أحب إلي من مجاورة صاحب قسطنطينية ، وبث السرايا في تلك الأعمال ، فنهبوها ، وأسروا أهلها وقتلوهم ، ثم إنه فادى  بيمند البرنس  ، صاحب أنطاكية  ، بمال جزيل وأسرى من المسلمين كثيرة أطلقهم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					