ذكر أسد الدين مصر وقتل شاور ملك
في هذه السنة ، في ربيع الأول ، سار إلى ديار أسد الدين شيركوه بن شاذي مصر ، فملكها ، ومعه العساكر النورية .
وسبب ذلك ما ذكرناه من تمكن الفرنج من البلاد المصرية ، وأنهم جعلوا لهم في القاهرة شحنة ، وتسلموا أبوابها ، وجعلوا لهم فيها جماعة من شجعانهم وأعيان فرسانهم ، وحكموا على المسلمين حكما جائرا ، وركبوهم بالأذى العظيم ، فلما رأوا ذلك ، وأن البلاد ليس فيها من يردهم ، وأرسلوا إلى ملك الفرنج بالشام ، وهو مري ولم يكن للفرنج مذ ظهر بالشام مثله شجاعة ومكرا ودهاء ، يستدعونه ليملكها ، وأعلموه خلوها من ممانع ، وهونوا أمرها عليه ، فلم يجبهم إلى ذلك ، فاجتمع إليه فرسان الفرنج وذوو الرأي منهم ، وأشاروا عليه بقصدها وتملكها ، فقال لهم : الرأي عندي أننا لا نقصدها ، فإنها طعمة لنا وأموالها تساق إلينا ، نتقوى بها على نور الدين ، وإن نحن قصدناها ; لنملكها فإن صاحبها وعساكره ، وعامة بلاده وفلاحيها ، لا يسلمونها إلينا ، ويقاتلوننا دونها ، ويحملهم الخوف منا على تسليمها إلى نور الدين ، ولئن أخذها نور الدين وصار له فيها مثل أسد الدين ، فهو هلاك الفرنج وإجلاؤهم من أرض الشام ، فلم يقبلوا قوله ، وقالوا له : إنها لا مانع فيها ولا حامي ، وإلى أن يتجهز عسكر نور الدين ويسير إليها ، نكون نحن قد ملكناها ، وفرغنا من أمرها ، وحينئذ يتمنى نور الدين منا السلامة .
فسار معهم على كره وشرعوا يتجهزون ويظهرون أنهم يريدون قصد مدينة حمص ، فلما سمع نور الدين شرع أيضا بجمع عساكره ، وأمرهم بالقدوم عليه ، وجد [ ص: 338 ] الفرنج في السير إلى مصر ، فقدموها ، ونازلوا مدينة بلبيس ، وملكوها قهرا مستهل صفر ، ونهبوها وقتلوا فيها وأسروا وسبوا .
وكان جماعة من أعيان المصريين قد كاتبوا الفرنج ، ووعدوهم النصرة عداوة منهم لشاور ، منهم ابن الخياط ، وابن فرجلة ، فقوي جنان الفرنج ، وساروا من بلبيس إلى مصر ، فنزلوا إلى القاهرة عاشر صفر ، وحصروها ، فخاف الناس منهم أن يفعلوا بهم كما فعلوا بأهل بلبيس ، فحملهم الخوف منهم على الامتناع ، فحفظوا البلد ، وقاتلوا دونه وبذلوا جهدهم في حفظه ، فلو أن الفرنج أحسنوا السيرة في بلبيس ; لملكوا مصر والقاهرة ، ولكن الله تعالى حسن لهم ما فعلوا ; ليقضي الله أمرا كان مفعولا .
وأمر بإحراق مدينة شاور مصر تاسع صفر ، وأمر أهلها بالانتقال منها إلى القاهرة ، وأن ينهب البلد ، فانتقلوا ، وبقوا على الطرق ، ونهبت المدينة ، وافتقر أهلها ، وذهبت أموالهم ونعمتهم قبل نزول الفرنج عليهم بيوم ، خوفا أن يملكها الفرنج ، فبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوما .
وأرسل الخليفة العاضد إلى نور الدين يستغيث به ، ويعرفه ضعف المسلمين عن دفع الفرنج ، وأرسل في الكتب شعور النساء وقال : هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك ; لتنقذهن من الفرنج ، فشرع في تسيير الجيوش .
وأما الفرنج فإنهم اشتدوا في حصار القاهرة وضيقوا على أهلها ، وشاور هو المتولي للأمر والعساكر والقتال ، فضاق به الأمر ، وضعف عن ردهم ، فأخذ إلى إعمال الحيلة ، فأرسل إلى ملك الفرنج يذكر له مودته ومحبته القديمة له ، وأن هواه معه ; لخوفه من نور الدين والعاضد ، وإنما المسلمون لا يوافقونه على التسليم إليه ، ويشير بالصلح ، وأخذ مال لئلا يتسلم البلاد نور الدين ، فأجابه إلى ذلك على أن يعطوه ألف ألف دينار مصرية ، يعجل البعض ، ويمهل بالبعض ، فاستقرت القاعدة على ذلك .
[ ص: 339 ] ورأى الفرنج أن البلاد قد امتنعت عليهم ، وربما سلمت إلى نور الدين ، فأجابوا كارهين ، وقالوا : نأخذ المال ، فنتقوى به ، ونعاود البلاد بقوة لا نبالي معها بنور الدين ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين فعجل لهم مائة ألف دينار ، وسألهم الرحيل عنه ليجمع لهم المال ، فرحلوا قريبا ، وجعل شاور يجمع لهم المال من أهل شاور القاهرة ومصر ، فلم يتحصل له إلا قدر لا يبلغ خمسة آلاف دينار ، وسببه أن أهل مصر كانوا قد احترقت دورهم وما فيها ، وما سلم نهب ، وهم لا يقدرون على الأقوات فضلا عن الأقساط .
وأما القاهرة فالأغلب على أهلها الجند وغلمانهم ، فلهذا تعذرت عليهم الأموال ، وهم خلال هذا يراسلون نور الدين بما الناس فيه ، وبذلوا له ثلث بلاد مصر ، وأن يكون أسد الدين مقيما عندهم في عسكر ، وأقطاعهم من البلاد المصرية أيضا خارجا عن الثلث الذي لهم .
وكان نور الدين لما وصله كتب العاضد بحلب أرسل إلى أسد الدين يستدعيه إليه ، فخرج القاصد في طلبه ، فلقيه على باب حلب ، وقد قدمها من حمص وكانت إقطاعه ، وكان سبب وصوله أن كتب المصريين وصلته أيضا في المعنى ، فسار أيضا إلى نور الدين ، واجتمع به ، وعجب نور الدين من حضوره في الحال ، وسره ذلك ، وتفاءل به ، وأمر بالتجهيز إلى مصر ، وأعطاه مائتي ألف دينار سوى الثياب والدواب والأسلحة وغير ذلك ، وحكمه في العسكر والخزائن ، واختار من العسكر ألفي فارس ، وأخذ المال ، وجمع ستة آلاف فارس ، وسار هو ونور الدين إلى دمشق فوصلها سلخ صفر ، ورحل إلى رأس الماء ، وأعطى نور الدين كل فارس ممن مع أسد الدين عشرين دينارا معونة غير محسوبة من جامكيته ، وأضاف إلى أسد الدين جماعة أخرى من الأمراء منهم : مملوكه عز الدين جورديك ، وعز الدين قلج ، وشرف الدين بزغش ، [ ص: 340 ] وعين الدولة الياروقي ، وقطب الدين ينال بن حسان المنبجي ، ، أخي وصلاح الدين يوسف بن أيوب شيركوه ، على كره منه ، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم أحب نور الدين مسير صلاح الدين ، وفيه ذهاب بيته ، وكره صلاح الدين المسير ، وفيه سعادته وملكه ، وسيرد ذلك عند موت شيركوه ، إن شاء الله تعالى .
وسار من رأس الماء مجدا منتصف ربيع الأول ، فلما قارب أسد الدين شيركوه مصر رحل الفرنج عنها عائدين إلى بلادهم بخفي حنين خائبين مما أملوا ، وسمع نور الدين بعودهم ، فسره ذلك ، وأمر بضرب البشائر في البلاد ، وبث رسله في الأفاق مبشرين بذلك ، فإنه كان فتحا جديدا لمصر وحفظا لسائر بلاد الشام وغيرها .
فأما أسد الدين فإنه وصل إلى القاهرة سابع جمادى الآخرة ، ودخل إليها ، واجتمع ، وخلع عليه وعاد إلى خيامه بالخلعة العاضدية ، وفرح به بالعاضد لدين الله أهل مصر ، وأجريت عليه وعلى عسكره الجرايات الكثيرة ، والإقامات الوافرة ، ولم يمكن المنع عن ذلك ; لأنه رأى العساكر كثيرة مع شاور شيركوه وهوى العاضد معهم ، فلم يتجاسر على إظهار ما في نفسه ، وشرع يماطل أسد الدين في تقرير ما كان بذل لنور الدين من المال ، وإقطاع الجند ، وإفراد ثلث البلاد لنور الدين ، وهو يركب كل يوم إلى أسد الدين ، ويسير معه ، ويعده ويمنيه وما يعدهم الشيطان إلا غرورا .
ثم إنه عزم على أن يعمل دعوة يدعو إليها أسد الدين والأمراء الذين معه ، ويقبض عليهم ، ويستخدم من معهم من الجند ، فيمنع بهم البلاد من الفرنج ، فنهاه ابنه الكامل ، وقال له : والله لئن عزمت على هذا ; لأعرفن شيركوه . فقال له أبوه : والله لئن لم نفعل هذا لنقتلن جميعا ، فقال : صدقت ، ولأن نقتل ونحن مسلمون والبلاد إسلامية ، خير من أن نقتل وقد ملكها الفرنج ، فإنه ليس بينك وبين عود الفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه ، وحينئذ لو مشى العاضد إلى نور الدين لم يرسل معه [ ص: 341 ] فارسا واحدا ، ويملكون البلاد ، فترك ما كان عزم عليه .
ولما رأى العسكر النوري مطل خافوا شره ، فاتفق شاور صلاح الدين يوسف بن أيوب وعز الدين جورديك وغيرهما على قتل ، فأعلموا شاور أسد الدين ، فنهاهم عنه ، فسكتوا وهم على ذلك العزم من قتله ، فاتفق أن قصد عسكر شاور أسد الدين على عادته ، فلم يجده في الخيام ، كان قد مضى يزور قبر الشافعي ، رضي الله عنه ، فلقيه صلاح الدين يوسف وجورديك في جمع من العسكر ، وخدموه ، وأعلموه بأن شيركوه في زيارة قبر الإمام الشافعي ، فقال : نمضي إليه ، فساروا جميعا ، فسايره صلاح الدين وجورديك وألقياه إلى الأرض عن فرسه ، فهرب أصحابه عنه ، فأخذ أسيرا ، فلم يمكنهم قتله بغير أمر أسد الدين ، فتوكلوا بحفظه ، وسيروا فأعلموا أسد الدين الحال ، فحضر ، ولم يمكنه إلا إتمام ما عملوه ، وسمع الخليفة العاضد صاحب مصر الخبر ، فأرسل إلى أسد الدين يطلب منه إنفاذ رأس ، وتابع الرسل بذلك ، فقتل ، وأرسل رأسه إلى شاور العاضد في السابع عشر من ربيع الآخر .
ودخل أسد الدين القاهرة ، فرأى من اجتماع الخلق ما خافهم على نفسه ، فقال لهم : أمير المؤمنين ، يعني العاضد ، يأمركم بنهب دار ، فتفرق الناس عنه إليها ، فنهبوها ، وقصد هو قصر شاور العاضد ، فخلع عليه خلعة الوازرة ، ولقب الملك المنصور أمير الجيوش ، وسار بالخلع إلى دار الوزارة ، وهي التي كان فيها ، فلم ير فيها ما يقعد عليه ، واستقر في الأمر ، وغلب عليه ، ولم يبق له مانع ولا منازع ، واستعمل على الأعمال من يثق به من أصحابه وأقطع البلاد لعساكره . شاور
وأما الكامل بن شاور فإنه لما قتل أبوه دخل القصر هو وإخوته معتصمين به ، فكان آخر العهد بهم ، فكان شيركوه يتأسف عليه كيف عدم لأنه بلغه ما كان منه مع أبيه في منعه من قتل شيركوه ، وكان يقول : وددت أنه بقي ; لأحسن إليه جزاء الصنيعة .