ذكر ملك  نور الدين  الموصل  وإقرار  سيف الدين  عليها  
لما بلغ   نور الدين محمودا  وفاة أخيه   قطب الدين مودود  ، صاحب الموصل  ، وملك ولده   سيف الدين غازي  الموصل  والبلاد التي كانت لأبيه ، بعد وفاته ، وقيام  فخر الدين عبد المسيح  بالأمر معه ، وتحكمه عليه ، أنف لذلك ، وكبر لديه ، وعظم عليه ، وكان يبغض  فخر الدين  لما يبلغه عنه من خشونة سياسته ، فقال : أنا أولى بتدبير أولاد أخي وملكهم ، وسار عند انقضاء العزاء جريدة في قلة من العسكر ، وعبر الفرات  ، عند قلعة جعبر  ، مستهل المحرم من هذه السنة ، وقصد الرقة  فحصرها وأخذها . 
ثم سار إلى الخابور  فملكه جميعه ، وملك نصيبين  ، وأقام بها يجمع العساكر ، فأتاه بها  نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود  ، صاحب حصن كيفا  ، وكثر جمعه ، وكان قد ترك أكثر عساكره بالشام    ; لحفظ ثغوره ، فلما اجتمعت العساكر سار إلى سنجار  ، فحصرها ، ونصب عليها المجانيق ، وملكها ، وسلمها إلى  عماد الدين ابن أخيه قطب الدين     . 
وكان قد جاءته كتب الأمراء الذين بالموصل  سرا ، يبذلون له الطاعة ، ويحثونه على الوصول إليهم ، فسار إلى الموصل  فأتى مدينة بلد  ، وعبر دجلة  عندها مخاضة إلى الجانب الشرقي ، وسار فنزل شرق الموصل  على حصن نينوى  ، ودجلة  بينه وبين الموصل  ، ومن العجب أن يوم نزوله سقط من سور الموصل  بدنة كبيرة . 
وكان   سيف الدين غازي  وفخر الدين  قد سيرا  عز الدين مسعود بن قطب الدين  إلى   أتابك شمس الدين إيلدكز  ، صاحب همذان  وبلد الجبل  ، وأذربيجان  ، وأصفهان  ، والري  وتلك الأعمال يستنجده على عمه  نور الدين  ، فأرسل  إيلدكز  رسولا إلى  نور   [ ص: 360 ] الدين  ينهاه عن التعرض إلى الموصل  ، ويقول له : إن هذه البلاد للسلطان ، فلا تقصدها ، فلم يلتفت إليه ، وقال للرسول : قل لصاحبك أنا أصلح لأولاد أخي منك ، فلم تدخل نفسك بيننا ؟ وعند الفراغ من إصلاح بلادهم يكون الحديث معك على باب همذان  ، فإنك قد ملكت هذه المملكة العظيمة ، وأهملت الثغور حتى غلب الكرج عليها ، وقد بليت أنا ، ولي مثل ربع بلادك ، بالفرنج  ، وهم أشجع العالم ، فأخذت معظم بلادهم ، وأسرت ملوكهم ، ولا يحل لي السكوت عنك ، فإنه يجب علينا القيام بحفظ ما أهملت وإزالة الظلم عن المسلمين . 
فأقام  نور الدين  على الموصل  ، فعزم من بها من الأمراء على مجاهرة  فخر الدين عبد المسيح  بالعصيان ، وتسليم البلد إلى  نور الدين  ، فعلم ذلك ، فأرسل إلى  نور الدين  في تسليم البلد إليه على أن يقره بيد  سيف الدين  ، ويطلب لنفسه الأمان ولماله ، فأجابه إلى ذلك ، وشرط أن  فخر الدين  يأخذه معه إلى الشام  ، ويعطيه عنده إقطاعا يرضيه ، فتسلم البلد ثالث عشر جمادى الأولى من هذه السنة ودخل القلعة من باب السر ; لأنه لما بلغه عصيان  عبد المسيح  عليه حلف أن لا يدخلها إلا من أحصن موضع فيها ، ولما ملكها أطلق ما بها من المكوس وغيرها من أبواب المظالم ، وكذلك فعل بنصيبين  وسنجار  والخابور  ، وهكذا كان جميع بلاده من الشام  ومصر    . 
ووصله ، وهو على الموصل  يحاصرها ، خلعة من   الخليفة المستضيء بأمر الله  ، فلبسها ، ولما ملك الموصل  خلعها على  سيف الدين  ابن أخيه ، وأمره وهو بالموصل  بعمارة الجامع النوري  ، وركب هو بنفسه إلى موضعه ، فرآه ، وصعد منارة مسجد أبي حاضر  فأشرف منها على موضع الجامع ، فأمر أن يضاف إلى الأرض التي شاهدها ما يجاورها من الدور والحوانيت ، وأن لا يؤخذ منها شيء بغير اختيار أصحابه . وولى  الشيخ عمر الملا  عمارته ، وكان من الصالحين الأخيار ، فاشترى الأملاك من أصحابها بأوفر الأثمان ، وعمره ، فخرج عليه أموال كثيرة ، وفرغ من عمارته سنة ثمان وستين وخمسمائة . 
وعاد إلى الشام  ، واستناب في قلعة الموصل  خصيا كان له اسمه  كمشتكين  ، ولقبه  سعد الدين  ، وأمر  سيف الدين  أن لا ينفرد عنه بقليل من الأمور ولا بكثير ،   [ ص: 361 ] وحكمه [ في البلاد ] وأقطع مدينة سنجار  لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين  ، فلما فعل ذلك قال  كمال الدين بن الشهرزوري     : هذا طريق إلى أذى يحصل لبيت أتابك ; لأن  عماد الدين  كبير لا يرى طاعة  سيف الدين  ، [  وسيف الدين     ] هو الملك لا يرى الإغضاء  لعماد الدين  فيحصل الخلف ، ويطمع الأعداء ، فكان كذلك على ما نذكره سنة سبعين وخمسمائة ، وكان مقام  نور الدين  بالموصل  أربعة وعشرين يوما ، واستصحب معه  فخر الدين عبد المسيح  ، وغير اسمه فسماه  عبد الله  ، وأقطعه إقطاعا كبيرا . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					