في هذه السنة ، ثاني رمضان ، صلب جماعة ممن أرادوا الوثوب به صلاح الدين يوسف بن أيوب بمصر من أصحاب الخلفاء العلويين .
وسبب ذلك أن جماعة من شيعة العلويين منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر ، وعبد الصمد الكاتب ، والقاضي العويرس ، وداعي الدعاة وغيرهم من جند المصريين ورجالتهم السودان ، وحاشية القصر ، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده ، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية ، ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد ، فإذا قصدوا البلاد ، فإن خرج صلاح الدين بنفسه إليهم ثاروا هم في القاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية ، وعاد من معه من العسكر الذين وافقوهم عنه ، فلا يبقى له مقام مقابل الفرنج ، وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به ، وأخذوه أخذا باليد لعدم الناصر له والمساعد ، وقال لهم عمارة : وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفا أن يسد مسده وتجتمع الكلمة عليه بعده .
وأرسلوا إلى الفرنج بصقلية والساحل في ذلك ، وتقررت القاعدة بينهم ، ولم يبق [ ص: 391 ] إلا رحيل الفرنج ، وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين أدخلوا معهم في هذا ، ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقاضي ، إلا أن الأمير زين الدين علي بن نجا الواعظ ، المعروف بابن نجية بني رزيك قالوا : يكون الوزير منا ، وبني شاور قالوا : يكون الوزير منا ، فلما علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين ، وأعلمه حقيقة الأمر ، فأمر بملازمتهم ، ومخالطتهم ، ومواطأتهم على ما يريدون أن يفعلوه ، وتعريفه ما يتجدد أولا بأول ، ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه .
ثم وصل رسول من ملك الفرنج بالساحل الشامي إلى صلاح الدين بهدية ورسالة ، وهو في الظاهر إليه ، والباطن إلى أولئك الجماعة ، وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم ، فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجلية الحال ، فوضع صلاح الدين على الرسول بعض من يثق به من النصارى ، وداخله ، فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته ، فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة منهم : عمارة وعبد الصمد والعويرس وغيرهم وصلبهم .
وقيل في كشف أمرهم إن عبد الصمد المذكور كان إذا لقي يخدمه ويتقرب إليه بجهده وطاقته ، فلقيه يوما ، فلم يلتفت إليه ، فقال القاضي الفاضل الكاتب الصلاحي القاضي الفاضل : ما هذا إلا لسبب . وخاف أن يكون قد صار له باطن من صلاح الدين ، فأحضر علي بن نجا الواعظ وأخبره الحال ، وقال : أريد أن تكشف لي الأمر ، فسعى في كشفه فلم ير له من جانب صلاح الدين شيئا ، فعدل إلى الجانب الآخر ، فكشف الحال ، وحضر عند القاضي الفاضل وأعلمه ، فقال : تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهي الحال إليه ، فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع ، فذكر له الحال ، فقام وأخذ الجماعة وقررهم ، فأقروا ، فأمر بصلبهم .
وكان عمارة بينه وبين الفاضل عداوة من أيام العاضد وقبلها ، فلما أراد صلبه قام القاضي الفاضل وخاطب صلاح الدين في إطلاقه ، وظن عمارة أنه يحرض على هلاكه ، فقال لصلاح الدين : يا مولانا لا تسمع منه في حقي ، فغضب الفاضل وخرج ، وقال صلاح الدين لعمارة : إنه كان يشفع فيك ، فندم ، ثم أخرج عمارة ليصلب ، فطلب أن [ ص: 391 ] يمر به على مجلس الفاضل ، فاجتازوا به عليه ، فأغلق بابه ولم يجتمع به ، فقال عمارة :
عبد الرحيم قد احتجب إن الخلاص هو العجب
ثم صلب هو والجماعة ، ونودي في أجناد المصريين بالرحيل من ديار مصر ومفارقتها إلى أقاصي الصعيد ، واحتيط على من بالقصر من سلالة العاضد وغيره من أهله .
وأما الذين نافقوا على صلاح الدين من جنده فلم يعرض لهم ، ولا أعلمهم أنه علم بحالهم .
وأما الفرنج ، فإن فرنج صقلية قصدوا الإسكندرية على ما نذكره إن شاء الله تعالى ، لأنهم لم يتصل بهم ظهور الخبر عند صلاح الدين .
وأما فرنج الساحل الشامي فإنهم لم يتحركوا لعلمهم بحقيقة الحال .
وكان عمارة شاعرا مفلقا ، فمن شعره :
لو أن قلبي يوم كاظمة معي لملكته وكظمت فيض الأدمع
قلب كفاك من الصبابة أنه لبى نداء الظاعنين وما دعي
ما القلب أول غادر فألومه هي شيمة الأيام مذ خلقت معي
ومن الظنون الفاسدات توهمي بعد اليقين بقاءه في أضلعي
وله أيضا :
لي في هوى الرشإ العذري إعذار لم يبق لي مذ أقر الدمع إنكار
[ ص: 393 ] لي في القدود وفي لثم الخدود وفي ضم النهود لبانات وأوطار
هذا اختياري فوافق إن رضيت به أو لا فدعني وما أهوى وأختار
وله ديوان شعر مشهور في غاية الحسن والرقة والملاحة .