وكانت في شوال ، وسببها أنه لما سمعت هوازن بما فتح الله على رسوله من مكة جمعها مالك بن عوف النصري من بني نصر بن معاوية بن بكر ، وكانوا مشفقين من أن يغزوهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح مكة ، وقالوا : لا مانع له من غزونا ، والرأي أن نغزوه [ ص: 133 ] قبل أن يغزونا . واجتمع إليه ثقيف يقودها قارب بن الأسود بن مسعود سيد الأحلاف ، وذو الخمار سبيع بن الحارث ، وأخوه الأحمر بن الحارث سيد بني مالك ، ولم يحضرها من قيس عيلان إلا نصر وجشم وسعد بن بكر ، وناس من بني هلال ، ولم يحضرها كعب ولا كلاب ، وفي جشم دريد بن الصمة ، شيخ كبير ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ، وكان شيخا مجربا
فلما أجمع مالك بن عوف المسير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حط مع الناس أموالهم ونساءهم ، فلما نزلوا أوطاس جمع الناس ، وفيهم دريد بن الصمة ، فقال دريد : بأي واد أنتم ؟ فقالوا : بأوطاس . قال : نعم مجال الخيل ، لا حزن شرس ، ولا سهل دهس ، ما لي أسمع رغاء البعير ، ونهاق الحمير ، ويعار الشاء ، وبكاء الصغير ؟ قالوا : ساق مالك مع الناس ذلك . فقال : يا مالك ، إن هذا يوم له ما بعده ، ما حملك على ما صنعت ؟ قال : سقتهم مع الناس ليقاتل كل إنسان عن حريمه وماله . قال دريد : راعي ضأن والله ، هل يرد المنهزم شيء ؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه ، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك . وقال : ما فعلت كعب وكلاب ؟ قالوا : لم يشهدها أحد منهم . قال : غاب الجد والحد ، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب ولا كلاب ، ووددت أنكم فعلتم ما فعلا . ثم قال : يا مالك ، ارفع من معك إلى عليا بلادهم ، ثم ألق الصباء على الخيل ، فإن كانت لك لحق بك من وراءك ، وإن كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك ومالك . قال مالك : والله لا أفعل ذلك ، إنك قد كبرت وكبر علمك ، والله لتطيعنني يا معشر هوازن ، أو لأتكين على هذا السيف حتى يخرج من ظهري . وكره أن يكون لدريد فيها ذكر . فقال دريد : هذا يوم لم أشهده ، ولم يفتني .
ثم قال مالك : أيها الناس ، إذا رأيتم القوم فاكسروا جفون سيوفكم ، وشدوا عليهم شدة رجل واحد .
وبعث مالك عيونه ليأتوه بالخبر ، فرجعوا إليه وقد تفرقت أوصالهم ، فقال : ما [ ص: 134 ] شأنكم ؟ قالوا : رأينا رجالا بيضا على خيل بلق ، فوالله ما تماسكنا أن حل بنا ما ترى ! فلم ينهه ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد .
ولما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر هوازن أجمع المسير إليهم ، وبلغه أن عند أدراعا وسلاحا ، فأرسل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يومئذ مشرك : أعرنا سلاحك نلق فيه عدونا . فقال له صفوان بن أمية صفوان : أغصبا يا محمد ؟ فقال : بل عارية مضمونة نؤديها إليك . قال : ليس بهذا بأس ، فأعطاه مائة درع بما يصلحها من السلاح . ثم سار النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه ألفان من مسلمة الفتح مع عشرة آلاف من أصحابه ، فكانوا اثني عشر ألفا ، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثرة من معه قال : لن نغلب اليوم من قلة ، وذلك قوله تعالى : ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ، وقيل : إنما قالها رجل من بكر .
واستعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من بمكة عتاب بن أسيد .
قال جابر : فلما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد أجوف حطوط ، إنما ننحدر فيه انحدارا في عماية الصبح ، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي ، فكمنوا لنا في شعابه ومضايقه ، قد تهيئوا وأعدوا ، فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدت علينا شدة رجل واحد ، فانهزم الناس أجمعون لا يلوي أحد على أحد ، وانحاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات اليمين ، ثم قال : محمد بن عبد الله ، قاله ثلاثا ، ثم احتملت الإبل بعضها بعضا ، إلا أنه قد بقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نفر من أيها الناس ، هلموا إلي أنا رسول الله ، أنا المهاجرين والأنصار وأهل بيته ، منهم : أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، والعباس ، وابنه الفضل ، ، وأبو سفيان بن الحارث ، وربيعة بن الحارث وأيمن ابن أم أيمن ، . وأسامة بن زيد
قال : وكان رجل من هوازن على جمل أحمر بيده راية سوداء أمام الناس ، فإذا أدرك رجلا طعنه ثم رفع رايته لمن وراءه فاتبعوه ، فحمل عليه علي فقتله .
ولما انهزم الناس تكلم رجال من أهل مكة بما في أنفسهم من الضغن ، فقال : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ، والأزلام معه . وقال أبو سفيان بن حرب كلدة بن الحنبل ، وهو أخو لأمه ، وكان صفوان بن أمية يومئذ مشركا : الآن بطل السحر . [ ص: 135 ] فقال له صفوان بن أمية صفوان : اسكت فض الله فاك ، فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن !
وقال : اليوم أدرك ثأري من شيبة بن عثمان محمد ، وكان أبوه قتل بأحد ، قال : فأدرت به لأقتله ، فأقبل شيء حتى تغش فؤادي ، فلم أطق ذلك .
وكان العباس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - آخذا بحكمة بغلته دلدل وهو عليها ، وكان العباس جسيما شديد الصوت ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم : يا عباس ، اصرخ : يا معشر الأنصار ، يا أصحاب السمرة ! ففعل ، فأجابوه : لبيك لبيك ! فكان الرجل يريد أن يثني بعيره فلا يقدر ، فيأخذ سلاحه ثم ينزل عنه ويؤم الصوت ، فاجتمع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة رجل فاستقبل بهم القوم وقاتلهم ، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - شدة القتال قال :
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
الآن حمي الوطيس ، وهو أول من قالها . واقتتل الناس قتالا شديدا ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لبغلته دلدل : البدي دلدل ، فوضعت بطنها على الأرض ، فأخذ حفنة من تراب ، فرمى به في وجوههم ، فكانت الهزيمة ، فما رجع الناس إلا والأسارى في الحبال عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقيل : بل أقبل شيء أسود من السماء مثل البجاد حتى سقط بين القوم ، فإذا نمل أسود مبثوث ، فكانت الهزيمة .
ولما انهزمت هوازن قتل من ثقيف وبني مالك سبعون رجلا ، فأما الأخلاف من ثقيف فلم يقتل منهم غير رجلين ؛ لأنهم انهزموا سريعا . وقصد بعض المشركين الطائف ومعهم مالك بن عوف ، واتبعت خيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشركين فقتلهم ، فأدرك ربيعة بن يربوع السلمي دريد بن الصمة ولم يعرفه ؛ لأنه كان في شجار لكبره ، وأناخ بعيره [ ص: 136 ] فإذا هو شيخ كبير ، فقال له دريد : ماذا تريد ؟ قال : أقتلك . قال : ومن أنت ؟ فانتسب له ، ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئا . فقال دريد : بئس ما سلحتك أمك ، خذ سيفي فاضرب به ، ثم ارفع عن العظام واخفض عن الدماغ ، فإني كذلك كنت أقتل الرجال ، وإذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة ، فرب يوم قد منعت فيه نساءك . فقتله . فلما أخبر أمه قالت : والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثا . واستلب يوم أبو طلحة الأنصاري حنين عشرين رجلا وحده ، وقتلهم . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : . من قتل قتيلا فله سلبه
وقتل قتيلا ، وأجهضه القتال عن أخذ سلبه ، فأخذه غيره ، فلما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك قام أبو قتادة الأنصاري فقال : قتلت قتيلا وأخذ غيري سلبه . فقال الذي أخذ السلب : هو عندي فارضه مني يا رسول الله . فقال أبو قتادة أبو بكر : لا والله ، لا تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله تقاسمه ، فرد عليه السلب .
وكان لبعض ثقيف غلام نصراني ، فقتل ، فبينما رجل من الأنصار يستلب قتلى ثقيف إذ كشف العبد فرآه أغرل ، فصرخ بأعلى صوته : يا معشر العرب ، إن ثقيفا لا تختتن . فقال له : لا تقل هذا ، إنما هو غلام نصراني ، وأراه قتلى المغيرة بن شعبة ثقيف مختتنين .
. فقال لبعض من معه : أدرك خالد بن الوليد خالدا فقل له : إن رسول الله ينهاك أن تقتل امرأة أو وليدا أو عسيفا . والعسيف الأجير . ومر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الطريق بامرأة مقتولة ، فقال : من قتلها ؟ قالوا :
وكان بعض المشركين بأوطاس فأرسل إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا عامر الأشعري ، عم أبي موسى ، فرمي أبو عامر بسهم ، قيل رماه سلمة بن دريد بن الصمة ، وقتل أبو موسى سلمة هذا بعمه أبي عامر ، وانهزم المشركون بأوطاس ، وظفر المسلمون بالغنائم [ ص: 137 ] والسبايا ، فساقوا في السبي الشيماء ابنة الحارث بن عبد العزى ، فقالت لهم : إني والله أخت صاحبكم من الرضاعة ، فلم يصدقوها حتى أتوا بها النبي - صلى الله عليه وسلم - . فقالت له : إني أختك . قال : وما علامة ذلك ؟ قالت : عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك . فعرفها وبسط لها رداءه وأجلسها عليه ، وخيرها فقال : إن أحببت فعندي مكرمة محببة ، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك . قالت : بل تمتعني وتردني إلى قومي ، ففعل .
وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسبايا والأموال ، فجمعت إلى الجعرانة ، وجعل عليها بديل بن ورقاء الخزاعي .
واستشهد من المسلمين بحنين أيمن ابن أم أيمن ، ويزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن عبد العزى ، وغيرهما .