ذكر غزوة تبوك   
لما عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقام بالمدينة  بعد عوده من الطائف  ما بين ذي الحجة إلى رجب ، ثم أمر الناس بالتجهز لغزو الروم  ، وأعلم الناس مقصدهم لبعد الطريق ، وشدة الحر ، وقوة العدو ، وكان قبل ذلك إذا أراد غزوة ورى بغيرها . 
وكان سببها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغه أن  هرقل  ملك الروم  ومن عنده من متنصرة العرب - قد عزموا على قصده ، فتجهز هو والمسلمون وساروا إلى الروم    . وكان الحر شديدا ، والبلاد مجدبة ، والناس في عسرة ، وكانت الثمار قد طابت ، فأحب الناس المقام في ثمارهم ، فتجهزوا على كره ، فكان ذلك الجيش يسمى جيش العسرة . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  للجد بن قيس  ، وكان من رؤساء المنافقين : هل لك في جلاد بني   [ ص: 146 ] الأصفر  ؟ فقال : والله لقد عرف قومي حبي للنساء ، وأخشى أن لا أصبر على نساء بني الأصفر  ، فإن رأيت أن تأذن لي ولا تفتني . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : قد أذنت لك ، فأنزل الله - تعالى : ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني  الآية ، وقال قائل من المنافقين : لا تنفروا في الحر ، فنزل قوله - تعالى : وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا    . 
ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - تجهز وأمر بالنفقة في سبيل الله ، وأنفق أهل الغنى ، وأنفق  أبو بكر  جميع ما بقي عنده من ماله ، وأنفق  عثمان  نفقة عظيمة لم ينفق أحد أعظم منها ، قيل : كانت ثلاثمائة بعير وألف دينار . 
ثم إن رجالا من المسلمين أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم البكاءون ، وكانوا سبعة نفر من الأنصار  وغيرهم ، وكانوا أهل حاجة ، فاستحملوه . فقال : لا أجد ما أحملكم عليه . فتولوا يبكون ، فلقيهم  يامين بن عمير بن كعب النضري  ، فسألهم عما يبكيهم فأعلموه ، فأعطى  أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب  ،   وعبد الله بن مغفل المزني  بعيرا ، فكانا يعتقبانه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . 
وجاء المعذرون من الأعراب فاعتذروا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يعذرهم الله ، وكان عدة من المسلمين تخلفوا من غير شك ، منهم :   كعب بن مالك  ،  ومرارة بن الربيع  ،  وهلال بن أمية  ،  وأبو خيثمة     . 
فلما سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تخلف عنه  عبد الله بن أبي المنافق  فيمن تبعه من أهل النفاق ، واستخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة  سباع بن عرفطة  ، وعلى أهله   علي بن أبي طالب  ، فأرجف به المنافقون وقالوا : ما خلفه إلا استثقالا له . فلما سمع  علي  ذلك أخذ سلاحه ولحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ما قال المنافقون ، فقال : كذبوا ، وإنما خلفتك لما ورائي ، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون  من   [ ص: 147 ] موسى  ؟ إلا أنه لا نبي بعدي   . فرجع ، فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . 
ثم إن  أبا خيثمة  أقام أياما ، فجاء يوما إلى أهله ، وكانت له امرأتان ، وقد رشت كل امرأة منهما عريشها ، وبردت له ماء ، وصنعت طعاما ، فلما رآه قال : يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحر والريح ،  وأبو خيثمة  في الظل البارد ، والماء البارد مقيم ! ما هذا بالنصف ، والله ما أحل عريشا منها حتى ألحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فهيأ زاده وخرج إلى ناضحه فركبه ، وطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأدركه بتبوك  ، فقال الناس : يا رسول الله ، هذا راكب مقبل . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : كن  أبا خيثمة     . فقالوا : هو والله  أبو خيثمة     . وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بخبره ، فدعا له   . 
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين مر بالحجر ، وهو بطريقه ، وهو منزل ثمود  ، قال لأصحابه : لا تشربوا من هذا الماء شيئا ، ولا تتوضئوا منه ، وما كان من عجين فألقوه واعلفوه الإبل ، ولا تأكلوا منه شيئا ، ولا يخرج الليلة أحد إلا مع صاحب له   . ففعل ذلك الناس ولم يخرج أحد إلا رجلين من بني ساعدة  ، خرج أحدهما لحاجة فأصابه جنون ، وأما الذي طلب بعيره فاحتمله الريح إلى جبلي طيئ  ، فأخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ألم أنهكم أن لا يخرج أحد إلا مع صاحب له ؟ فأما الذي خنق فدعا له فشفي ، وأما الذي حملته الريح فأهدته طيئ  إلى رسول الله بعد عوده إلى المدينة    . وأصبح الناس بالحجر ولا ماء معهم ، فشكوا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا الله ، فأرسل سحابة فأمطرت حتى روي الناس . 
وكان بعض المنافقين يسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما جاء المطر قال له بعض المسلمين : هل بعد هذا الشيء ؟ قال : سحابة مارة . 
وضلت ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الطريق فقال لأصحابه ، وفيهم  عمارة بن حزم  ، وهو عقبي بدري : إن رجلا قال : إن محمدا  يخبركم الخبر من السماء وهو لا يدري أين ناقته ، وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله - عز وجل - وهي في الوادي في شعب كذا ، قد حبستها شجرة بزمامها ، فانطلقوا فأتوه بها ، فرجع  عمارة  إلى أصحابه ، فخبرهم بما قال   [ ص: 148 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الناقة تعجبا مما رأى . وكان  زيد بن لصيت القينقاعي  منافقا ، وهو في رحل  عمارة  قد قال هذه المقالة ، فأخبر  عمارة  بأن  زيدا  قد قالها ، فقام  عمارة  يطأ عنقه وهو يقول : في رحلي داهية ولا أدري ! اخرج عني يا عدو الله ! فزعم بعض الناس أن  زيدا  تاب بعد ذلك وحسن إسلامه ، وقيل : لم يزل متهما حتى هلك . 
ووقف  بأبي ذر  جمله فتخلف عليه ، فقيل : يا رسول الله ، تخلف  أبو ذر     . فقال : ذروه ، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم ، فكان يقولها لكل من تخلف عنه ، فوقف  أبو ذر  على جمله ، فلما أبطأ عليه أخذ رحله عنه ، وحمله على ظهره ، وتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - ماشيا . فنظر الناس فقالوا : يا رسول الله ، هذا رجل على الطريق وحده . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : كن  أبا ذر     . فلما تأمله الناس قالوا : هو  أبو ذر     . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : يرحم الله  أبا ذر  ، يمشي وحده ، ويموت وحده . ويبعث وحده ، ويشهده عصابة من المؤمنين   . 
فلما نفى  عثمان  أبا ذر  إلى الربذة  أصابه بها أجله ، ولم يكن معه إلا امرأته وغلامه ، فأوصاهما أن يغسلاه ويكفناه ، ثم يضعاه على الطريق ، فأول ركب يمر بهما يستعينان بهم على دفنه ، ففعلا ذلك ، فاجتاز بهما   عبد الله بن مسعود  في رهط من أهل العراق   ، فأعلمته امرأة  أبي ذر   بموته . فبكى   ابن مسعود  وقال : صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تمشي وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك ، ثم واروه   . 
وانتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك  ، فأتى  يوحنا بن رؤبة صاحب أيلة   ، فصالحه على الجزية ، وكتب له كتابا ، فبلغت جزيتهم ثلاثمائة دينار ، ثم زاد فيها الخلفاء من بني أمية    . فلما كان   عمر بن عبد العزيز  لم يأخذ منهم غير ثلاثمائة ، وصالح أهل أذرح  على مائة دينار في كل رجب . وصالح أهل جرباء  على الجزية ، وصالح أهل مقنا  على ربع ثمارهم . 
وأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -   خالد بن الوليد  إلى  أكيدر بن عبد الملك  صاحب دومة   [ ص: 149 ] الجندل  ، وكان نصرانيا من كندة  ، فقال  لخالد     : إنك تجده يصيد البقر   . فخرج   خالد بن الوليد  حتى إذا كان من حصنه على منظر العين ،  وأكيدر  على سطح داره ، فباتت البقر تحك بقرونها باب الحصن ، فقالت امرأته : هل رأيت مثل هذا قط ؟ قال : لا والله ، ثم نزل وركب فرسه ومعه نفر من أهل بيته ، ثم خرج يطلب البقر ، فتلقتهم خيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذته ، وقتلوا أخاه  حسانا  ، وأخذ  خالد  من  أكيدر  قباء ديباج مخوص بالذهب ، فأرسله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل المسلمون يلمسونه ويتعجبون منه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أتعجبون من هذا ؟ لمناديل   سعد بن معاذ  في الجنة أحسن من هذا   . وقدم  خالد  بأكيدر  على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحقن دمه وصالحه على الجزية ، وخلى سبيله . 
وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتبوك  بضع عشرة ليلة ولم يجاوزها ، ولم يقدم عليه الروم  والعرب المتنصرة ، فعاد إلى المدينة    . وكان في الطريق ماء يخرج من وشل لا يروي إلا الراكب والراكبين ، بواد يقال له : وادي المشقق  ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : من سبقنا فلا يستقين منه شيئا حتى نأتيه . فسبقه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه ، فلما جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبروه بفعلهم ، فلعنهم ودعا عليهم ، ثم نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه فوضع يده تحته ، وجعل يصب إليها يسيرا من الماء ، فدعا فيه ونضحه في الوشل ، فانخرق الماء جريا شديدا ، فشرب الناس واستقوا   . وسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قارب المدينة  ، فأتاه خبر مسجد الضرار  ، فأرسل  مالك بن الدخشم  فحرقه وهدمه ، وأنزل الله فيه : والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين  الآيات . وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا ، وكان قد أخرج من دار  خذام بن خالد  من بني عمرو بن عوف    . 
وقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان قد تخلف عنه رهط من المنافقين ، فأتوه يحلفون له ويعتذرون ، فصفح عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعذرهم الله ورسوله ، وتخلف أولئك النفر الثلاثة ، وهم :   كعب بن مالك  ،  وهلال بن أمية  ،  ومرارة بن الربيع  ، تخلفوا من غير شك ولا نفاق ، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامهم ، فاعتزلهم الناس ، فبقوا كذلك خمسين ليلة ، ثم أنزل الله توبتهم : وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم   [ ص: 150 ] الآيات ، إلى قوله : صادقين ، وكان قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة  من تبوك  في رمضان . 
(  يامين النضري  بالنون ، والضاد المعجمة .   وعبد الله بن مغفل  بالغين المعجمة ، والفاء المشددة المفتوحة .  وزيد بن لصيت  باللام المضمومة ، والصاد المهملة المفتوحة ، وآخره تاء مثناة من فوقها .  وخذام بن خالد  بالخاء المكسورة ، والذال المعجمتين .  وأكيدر  بالهمزة المضمومة ، والكاف المفتوحة ، والدال المهملة المكسورة ، وآخره راء مهملة ) . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					