لما افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة وأسلمت ثقيف ، وفرغ من تبوك - ضربت إليه وفود العرب من كل وجه ، وإنما كانت العرب تنتظر بإسلامها قريشا ؛ إذ كانوا أمام الناس ، وأهل الحرم ، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم - عليه السلام - لا تنكر العرب ذلك ، وكانت قريش هي التي نصبت الحرب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلافه ، فلما فتحت مكة وأسلمت قريش عرفت العرب أنها لا طاقة لها بحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عداوته ، فدخلوا في الدين أفواجا ، كما قال الله - تعالى : إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا .
[ ص: 153 ] وقدمت وفودهم في هذه السنة ، قدم وفد بني أسد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : أتيناك قبل أن ترسل إلينا رسولا ، فأنزل الله - تعالى : يمنون عليك أن أسلموا ، الآية .
وفيها قدم وفد بلي في شهر ربيع الأول .
وفيها قدم وفد الداريين ، وهم عشرة نفر .
وفيها قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد بني تميم مع حاجب بن زرارة بن عدس ، وفيهم : الأقرع بن حابس ، والزبرقان بن بدر ، وعمرو بن الأهتم ، وقيس بن عاصم ، والختات ، ومعتمر بن زيد ، في وفد عظيم ، ومعهم عيينة بن حصن الفزاري ، فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وراء حجراته : أن اخرج إلينا يا محمد ، فآذى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخرج إليهم ، فقالوا : جئنا نفاخرك ، فأذن لشاعرنا وخطيبنا ، فأذن لهم ، فقام عطارد فقال : الحمد لله الذي له علينا الفضل الذي جعلنا ملوكا ، ووهب لنا أموالا عظاما نفعل فيها المعروف ، وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثرهم عددا ، فمن يفاخرنا فليعدد مثل عددنا .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أجب الرجل . فقام لثابت بن قيس ثابت فقال :
الحمد لله الذي له السماوات والأرض خلقه ، قضى فيهن أمره ، ووسع كرسيه علمه ، ولم يكن شيء قط إلا من فضله ، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكا ، واصطفى من خير خلقه رسولا ، أكرمهم نسبا ، وأصدقهم حديثا ، وأفضلهم حسبا ، فأنزل عليه كتابه ، وائتمنه على خلقه ، فكان خيرة الله - تعالى - من العالمين ، ثم دعا الناس إلى الإيمان ، فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمه ، أكرم الناس نسبا ، وأحسن الناس وجوها ، وخير الناس فعالا . ثم كان أول الخلق استجابة لله حين دعاه نحن ، فنحن أنصار الله ووزراء رسوله ، نقاتل الناس حتى يؤمنوا ، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه ، ومن كفر جاهدناه في الله أبدا ، وكان قتله علينا يسيرا ، والسلام عليكم .
فقالوا : يا رسول الله ، ائذن لشاعرنا ، فأذن له ، فقام الزبرقان بن بدر فقال :
[ ص: 154 ]
نحن الكرام فلا حي يعادلنا منا الملوك وفينا تنصب البيع وكم قسرنا من الأحياء كلهم
عند النهاب وفضل العرب يتبع ونحن يطعم عند القحط مطعمنا
من الشواء إذا لم يؤنس القزع بما ترى الناس تأتينا سراتهم
من كل أرض هويا ثم نصطنع فننحر الكوم عبطا في أرومتنا
للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا فلا ترانا إلى حي نفاخرهم
إلا استقادوا وكاد الرأس يقتطع إنا أبينا ولن يأبى لنا أحد
إنا كذلك عند الفخر نرتفع فمن يفاخرنا في ذاك يعرفنا
فيرجع القول والأخبار تستمع
إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بينوا سنة للناس تتبع
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
يرضى بها كل من كانت سريرته تقوى الإله ، وكل البر يصطنع
سجية تلك منهم غير محدثة إن الخلائق ، فاعلم ، شرها البدع
إن كان في الناس سباقون بعدهم فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا
إن سابقوا الناس يوما فاز سبقهم أو وازنوا أهل مجد بالندى متعوا
أعفة ذكرت في الوحي عفتهم لا يطعبون ولا يزري بهم طمع
لا يبخلون على جار بفضلهم ولا يمسهم من مطمع طبع
[ ص: 155 ] إذا نصبنا لحي لم ندب لهم كما يدب إلى الوحشية الذرع
كأنهم في الوغى والموت مكتنع أسد بحلية في أرساغها فدع
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم إذا تفرقت الأهواء والشيع
فإنهم أفضل الأحياء كلهم إن جد بالناس جد القول أو شمعوا
( الختات بالخاء المعجمة ، وتاءين كل واحدة منهما مثناة من تحت ، ونون ) .
وفيها قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب ملوك حمير مقرين بالإسلام ، مع رسولهم الحارث بن عبد كلال ، والنعمان - قيل : ذي رعين - وهمدان ، فأرسل إليه زرعة ذو يزن مالك بن مرة الرهاوي بإسلامهم ، وكتب إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرهم بما عليهم في الإسلام ، وينهاهم عما حرم عليهم .
وفيها قدم وفد بهراء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلوا على . وفيها قدم وفد المقداد بن عمرو بني البكاء .
وفيها قدم وفد بني فزارة ، فيهم خارجة بن حصن .
وفيها قدم وفد ثعلبة بن منقذ .
وفيها سعد بن بكر ، وكان وافدهم ضمام بن ثعلبة ، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شرائع الإسلام ، وأسلم ، فلما رجع إلى قومه ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لئن صدق ليدخلن الجنة ، فلما قدم على قومه اجتمعوا إليه ، فكان أول ما تكلم به أن قال : بئست اللات والعزى ! فقالوا : اتق البرص والجذام والجنون . فقال : ويحكم ! إنهما لا يضران ولا [ ص: 156 ] ينفعان ، وإن الله قد بعث رسولا ، وأنزل عليه كتابا ، وقد استنقذكم به مما كنتم فيه . وأظهر إسلامه ، فما أمسى ذلك اليوم في حاضره رجل مشرك ولا امرأة مشركة ، فما سمع بوافد قوم كان أفضل من قدم وفد ضمام بن ثعلبة .