ذكر إحراق الأبراج ووقعة الأسطول  
كان الفرنج ، في مدة مقامهم على عكا  ، قد عملوا ثلاثة أبراج من الخشب عالية جدا ، طول كل برج منها في السماء ستون ذراعا ، وعملوا كل برج منها خمس طبقات ،   [ ص: 79 ] كل طبقة مملوءة من المقاتلة ، وقد جمعوا أخشابها من الجزائر فإن مثل هذه الأبراج العظيمة لا يصلح لها من الخشب إلا القليل النادر ، وغشوها بالجلود والخل والطين والأدوية التي تمنع النار من إحراقها ، وأصلحوا الطرق لها ، وقدموها نحو مدينة عكا  من ثلاث جهات ، وزحفوا بها في العشرين من ربيع الأول ، فأشرفت على السور ، وقاتل من بها من عليه فانكشفوا ، وشرعوا في طم خندقها ، فأشرف البلد على أن يملك عنوة وقهرا . 
فأرسل أهله إلى  صلاح الدين  إنسانا سبح في البحر ، فأعلمه ما هم فيه من الضيق ، وما قد أشرفوا عليه من أخذهم وقتلهم ، فركب هو وعساكره وتقدموا إلى الفرنج وقاتلوهم من جميع جهاتهم قتالا عظيما دائما يشغلهم عن مكاثرة البلد . 
فافترق الفرنج فرقتين : فرقة تقاتل  صلاح الدين  وفرقة تقاتل أهل عكا  ، إلا أن الأمر قد خف عمن بالبلد ، ودام القتال ثمانية أيام متتابعة ، آخرها الثامن والعشرون من الشهر ، وسئم الفريقان القتال ، وملوا منه لملازمته ليلا ونهارا ، والمسلمون قد تيقنوا استيلاء الفرنج على البلد ، لما رأوا من عجز من فيه عن دفع الأبراج ، فإنهم لم يتركوا حيلة إلا وعملوها ، فلم يفد ذلك ، ولم يغن عنهم شيئا ، وتابعوا رمي النفط الطيار عليها ، فلم يؤثر فيها ، فأيقنوا بالبوار والهلاك ، فأتاهم الله بنصر من عنده وإذن في إحراق الأبراج . 
وكان سبب ذلك ، أن إنسانا من أهل دمشق  كان مولعا بجمع آلات النفاطين ، وتحصيل عقاقير تقوي عمل النار فكان من يعرفه يلومه على ذلك وينكره عليه وهو يقول : هذه حالة لا أباشرها بنفسي إنما أشتهي معرفتها ، وكان بعكا  لأمر يريده الله . 
فلما رأى الأبراج قد نصبت على عكا  شرع في عمل ما يعرفه من الأدوية المقوية للنار ، بحيث لا يمنعها شيء من الطين والخل وغيرهما ، فلما فرغ منها حضر عند الأمير  قراقوش  ، وهو متولي الأمور بعكا  والحاكم فيها ، وقال له : تأمر المنجنيقي أن يرمي في المنجنيق المحاذي لبرج من هذه الأبراج ما أعطيه حتى أحرقه . 
وكان عند  قراقوش  من الغيظ والخوف على البلد وما فيه ما يكاد يقتله ، فازداد   [ ص: 80 ] غيظا بقوله وحرد عليه ، فقال له : قد بالغ أهل هذه الصناعة في الرمي بالنفط وغيره فلم يفلحوا فقال له من حضر : لعل الله تعالى قد جعل الفرج على يد هذا ، ولا يضرنا أن نوافقه على قوله فأجابه إلى ذلك ، وأمر المنجنيقي بامتثال أمره . 
فرمى عدة قدور نفطا وأدوية ليس فيها نار ، فكان الفرنج إذا رأوا القدر لا يحرق شيئا يصيحون ، ويرقصون ، ويلعبون على سطح البرج حتى إذا علم أن الذي ألقاه قد تمكن من البرج ، ألقى قدرا مملوءة وجعل فيها النار فاشتعل البرج ، وألقى قدرا ثانية وثالثة ، فاضطرمت النار في نواحي البرج ، وأعجلت من في طبقاته الخمس عن المهرب والخلاص ، فاحترق هو ومن فيه ، وكان فيه من الزرديات والسلاح شيء كثير . 
وكان طمع الفرنج بما رأوا أن القدور الأولى لا تعمل شيئا يحملهم على الطمأنينة وترك السعي في الخلاص حتى عجل الله لهم النار في الدنيا قبل الآخرة ، فلما أحرق البرج الأول انتقل إلى الثاني ، وقد هرب من فيه لخوفهم ، فأحرقه ، وكذلك الثالث . 
وكان يوما مشهودا لم ير الناس مثله ، والمسلمون ينظرون ويفرحون ، وقد أسفرت وجوههم بعد الكآبة فرحة بالنصر وخلاص المسلمين من القتل لأنهم ليس فيهم أحد إلا وله في البلد إما نسيب وإما صديق . 
وحمل ذلك الرجل إلى  صلاح الدين  فبذل له الأموال الجزيلة والإقطاع الكثير فلم يقبل منه الحبة الفرد ، وقال : إنما عملته لله تعالى ولا أريد الجزاء إلا منه . 
وسيرت الكتب إلى البلاد بالبشائر . وأرسل يطلب العساكر الشرقية . 
فأول من أتاه  عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي  ، وهو صاحب سنجار  وديار الجزيرة  ، ثم أتاه  علاء الدين  ولد  عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي  ، سيره أبوه مقدما على عسكره وهو صاحب الموصل    . 
ثم وصل  زين الدين يوسف صاحب إربل   وكان كل منهم إذا وصل يتقدم إلى الفرنج بعسكره وينضم إليه غيرهم ، ويقاتلونهم ، ثم ينزلون . 
ووصل الأسطول من مصر  فلما سمع الفرنج بقربه منهم جهزوا إلى طريقه أسطولا ليلقاه ويقاتله ، فركب  صلاح الدين  في العساكر جميعها ، وقاتلهم من جهاتهم ليشتغلوا بقتاله عن قتال الأسطول ; ليتمكن من دخول عكا  ، فلم يشتغلوا عن قصده بشيء ، فكان القتال بين الفريقين برا وبحرا ، وكان يوما مشهودا لم يؤرخ مثله . 
وأخذ المسلمون من الفرنج مركبا بما فيه من الرجال والسلاح ، وأخذ الفرنج من المسلمين مثل ذلك إلا أن القتل في الفرنج كان أكثر منه في المسلمين ، ووصل الأسطول الإسلامي سالما . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					