ذكر صلاح الدين إلى دمشق الهدنة مع الفرنج وعود
في العشرين من شعبان من هذه السنة عقدت [ الهدنة ] بين المسلمين والفرنج لمدة ثلاث سنين وثمانية أشهر ، أولها هذا التاريخ ، وافق أول أيلول ؟ وكان سبب الصلح أن ملك إنكلتار لما رأى اجتماع العساكر ، وأنه لا يمكنه مفارقة ساحل البحر ، وليس بالساحل للمسلمين بلد يطمع فيه ، وقد طالت غيبته عن بلاده .
راسل صلاح الدين في الصلح ، وأظهر من ذلك ضد ما كان يظهره أولا ، فلم يجبه صلاح الدين إلى ما طلب ظنا منه أنه يفعل ذلك خديعة ومكرا ، وأرسل يطلب منه المصاف والحرب ، فأعاد الفرنجي رسله مرة بعد مرة ، ونزل عن تتمة عمارة عسقلان ، و [ تخلى ] عن غزة والداروم والرملة .
وأرسل إلى الملك العادل في تقرير هذه القاعدة فأشار هو وجماعة الأمراء بالإجابة إلى الصلح ، وعرفوه ما عند العسكر من الضجر والملل ، وما قد هلك من أسلحتهم ودوابهم ، ونفد من نفقاتهم .
وقالوا . إن هذا الفرنجي إنما طلب الصلح ليركب البحر ويعود إلى بلاده . فإن تأخرت إجابته إلى أن يجيء الشتاء وينقطع الركوب في البحر نحتاج للبقاء ها هنا سنة أخرى ، وحينئذ يعظم الضرر على المسلمين .
وأكثروا القول له في هذا المعنى ، فأجاب حينئذ إلى الصلح ، فحضر رسل الفرنج وعقدوا الهدنة ، وتحالفوا على هذه القاعدة .
وكان في جملة من حضر عند صلاح الدين باليان بن بارزان الذي كان صاحب الرملة ونابلس . فلما حلف صلاح الدين قال له : اعلم أنه ما عمل أحد في الإسلام [ مثل ] ما عملت ، ولا هلك من الفرنج مثل ما هلك منهم هذه المدة ، فإننا أحصينا من خرج إلينا في البحر من [ ص: 112 ] المقاتلة . فكانوا ستمائة ألف رجل ما عاد منهم إلى بلادهم من كل عشرة واحد ، بعضهم قتلته أنت ، وبعضهم مات ، وبعضهم غرق .
ولما انفصل أمر الهدنة أذن صلاح الدين للفرنج في زيارة البيت المقدس فزاروه ، وتفرقوا وعادت كل طائفة إلى بلادها ، وأقام بالساحل الشامي ملكا على الفرنج والبلاد التي بأيديهم . الكند هري ، وكان خير الطبع ، قليل الشر ، رفيقا بالمسلمين ، محبا لهم تزوج بالملكة التي كانت تملك بلاد الفرنج ، قبل أن يملكها صلاح الدين ، كما ذكرناه .
وأما صلاح الدين فإنه بعد تمام الهدنة سار إلى البيت المقدس ، وأمر بإحكام سوره [ وأدخل في السور كنيسة صهيون ، وكانت خارجة عنه بمقدار رميتي سهم ] ، وعمل المدرسة والرباط والبيمارستان ، وغير ذلك من مصالح المسلمين ، ووقف عليها الوقوف ، وصام رمضان بالقدس ، وعزم على الحج والإحرام منه ، فلم يمكنه ذلك ، فسار عنه خامس شوال نحو دمشق ، واستناب بالقدس أميرا اسمه جورديك ، وهو من المماليك النورية .
ولما سار عنه جعل طريقه على الثغور الإسلامية كنابلس ، وطبرية ، وصفد ، وتبنين ، وقصد بيروت ، وتعهد هذه البلاد ، وأمر بإحكامها .
فلما كان في بيروت أتاه بيمند صاحب أنطاكية وأعمالها ، واجتمع به وخدمه ، فخلع عليه صلاح الدين وعاد إلى بلده ، فلما عاد رحل صلاح الدين إلى دمشق ، فدخلها في الخامس والعشرين من شوال ، وكان يوم دخوله إليها يوما مشهودا ، وفرح الناس به فرحا عظيما لطول غيبته ، وذهاب العدو عن بلاد الإسلام .