ذكر ابن ] عبد المؤمن الفرنج بالأندلس غزو [
في هذه السنة - في شعبان - غزا أبو يوسف يعقوب بن عبد المؤمن صاحب بلاد المغرب والأندلس ، بلاد الفرنج بالأندلس ، وسبب ذلك أن ألفنش ملك الفرنج بها ، ومقر ملكه مدينة طليطلة ، كتب إلى يعقوب كتابا نسخته : " باسمك اللهم فاطر السماوات والأرض ، أما بعد أيها الأمير ، فإنه لا يخفى على كل ذي عقل لازب ، ولا ذي ذكاء ثاقب ، أنت أمير الملة الحنيفية ، كما أنا أمير الملة النصرانية ، وأنك [ ص: 133 ] من لا يخفى عليه ما هم عليه رؤساء الأندلس من التخاذل والتواكل ، وإهمال الرعية ، واشتمالهم على الراحات ، وأنا أسومهم الخسف وأخلي الديار ، وأسبي الذراري ، وأمثل بالكهول ، وأقتل الشباب ، ولا عذر لك في التخلف عن نصرتهم ، وقد أمكنتك يد القدرة ، وأنتم تعتقدون أن الله فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم . والآن خفف الله عنكم . وعلم أن فيكم ضعفا ، فقد فرض عليكم قتال اثنين منا بواحد منكم ، ونحن الآن نقاتل عددا منكم بواحد منا . ولا تقدرون دفاعا ، ولا تستطيعون امتناعا .
ثم حكي لي عنك أنك أخذت في الاحتفال ، وأشرفت على ربوة القتال ، وتمطل نفسك عاما بعد عام ، تقدم رجلا وتؤخر أخرى ، ولا أدري الجبن أبطأ بك أم التكذيب بما أنزل عليك ؟ .
ثم حكي لي عنك أنك لا تجد سبيلا للحرب لعلك ما يسوغ لك التقحم فيها ، فها أنا أقول لك ، ما فيه الراحة ، وأعتذر عنك ، ولك أن توافيني بالعهود والمواثيق والأيمان ، وأن تتوجه بجملة من عندك في المراكب والشواني ، وأجوز إليك بجملتي ، وأبارزك في أعز الأماكن عندك ، فإن كانت لك فغنيمة عظيمة جاءت إليك ، وهدية مثلت بين يديك ، وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك . واستحققت إمارة الملتين ، والتقدم على الفئتين ، والله يسهل الإرادة ، ويوفق السعادة بمنه لا رب غيره ، ولا خير إلا خيره " .
[ ص: 134 ] فلما وصل كتابه وقرأه يعقوب كتب في أعلاه هذه الآية ( ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ) وأعاده إليه . وجمع العساكر العظيمة من المسلمين وعبر المجاز إلى الأندلس .
وقيل : كان سبب عبوره إلى الأندلس أن يعقوب لما قاتل الفرنج سنة ست وثمانين [ وخمسمائة ] وصالحهم ، بقي طائفة من الفرنج لم ترض الصلح ، كما ذكرناه ، فلما كان الآن جمعت تلك الطائفة جمعا من الفرنج ، وخرجوا إلى بلاد الإسلام ، فقتلوا وسبوا وغنموا وأسروا ، وعاثوا فيها عيثا شديدا ، فانتهى ذلك إلى يعقوب ، فجمع العساكر ، وعبر المجاز إلى الأندلس في جيش يضيق عنه الفضاء ، فسمعت الفرنج بذلك ، فجمعت قاصيهم ودانيهم ، وأقبلوا إليه مجدين على قتاله وواثقين بالظفر لكثرتهم ، فالتقوا تاسع شعبان ، شمالي قرطبة عند قلعة رياح ، بمكان يعرف بمرج الحديد ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، فكانت الدائرة أولا على المسلمين . ثم عادت على الفرنج ، فانهزموا أقبح هزيمة ، وانتصر المسلمون عليهم ( وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم )
وكان عدد من قتل من الفرنج مائة ألف وستة وأربعين ألفا ، وأسر ثلاثة عشر ألفا ، وغنم المسلمون منهم شيئا عظيما ، فمن الخيام مائة ألف وثلاثة وأربعون ألفا ، ومن الخيل ستة وأربعون ألفا ، ومن البغال مائة ألف ، ومن الحمير مائة ألف . وكان يعقوب قد نادى في عسكره : من غنم شيئا فهو له سوى السلاح ، وأحصى ما حمل إليه منه ، فكان زيادة على سبعين ألف لبس ، وقتل من المسلمين نحو عشرين ألفا .
ولما انهزم الفرنج اتبعهم أبو يوسف فرآهم قد أخذوا قلعة رباح ، وساروا [ ص: 135 ] عنها من الرعب والخوف ، فملكها وجعل فيها واليا وجندا يحفظونها وعاد إلى مدينة إشبيلية .
وأما ألفنش فإنه لما انهزم حلق رأسه ، ونكس صليبه ، وركب حمارا ، وأقسم أن لا يركب فرسا ولا بغلا حتى تنصر النصرانية ، فجمع جموعا عظيمة ، وبلغ الخبر بذلك إلى يعقوب ، فأرسل إلى بلاد المغرب مراكش وغيرها يستنفر الناس من غير إكراه ، فأتاه من المتطوعة والمرتزقين جمع عظيم ، فالتقوا في ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة ، فانهزم الفرنج هزيمة قبيحة ، وغنم المسلمون ما معهم من الأموال والسلاح والدواب وغيرها ، وتوجه إلى مدينة طليطلة فحصرها ، وقاتلها قتالا شديدا ، وقطع أشجارها ، وشن الغارة على ما حولها من البلاد ، وفتح فيها عدة حصون ، فقتل رجالها ، وسبى حريمها ، وخرب دورها ، وهدم أسوارها ، فضعفت النصرانية حينئذ ، وعظم أمر الإسلام بالأندلس ، وعاد يعقوب إلى إشبيلية فأقام بها .
فلما دخلت سنة ثلاث وتسعين [ وخمسمائة ] ، سار عنها إلى بلاد الفرنج [ وفعل فيها مثل فعله الأول والثاني ، فضاقت الأرض على الفرنج ] ، وذلوا واجتمع ملوكهم ، وأرسلوا يطلبون الصلح ، فأجابهم إليه بعد أن كان عازما على الامتناع ، مريدا لملازمة الجهاد إلى أن يفرغ منهم ، فأتاه خبر علي بن إسحاق الملثم الميورقي أنه فعل بإفريقية ما نذكره من الأفاعيل الشنيعة ، فترك عزمه ، وصالحهم مدة خمس سنين ، وعاد إلى مراكش آخر سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة .