[ ص: 202 ] ذكر طليحة الأسدي خبر
وكان من طليحة بن خويلد الأسدي بني أسد بن خزيمة قد تنبأ في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجه إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرار بن الأزور عاملا على بني أسد ، وأمرهم بالقيام على من ارتد ، فضعف أمر طليحة حتى لم يبق إلا أخذه ، فضربه بسيف ، فلم يصنع فيه شيئا ، فظهر بين الناس أن السلاح لا يعمل فيه ، فكثر جمعه . ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم على ذلك ، فكان طليحة يقول : إن جبرائيل يأتيني ، وسجع للناس الأكاذيب ، وكان يأمرهم بترك السجود في الصلاة ويقول : إن الله لا يصنع بتعفر وجوهكم وتقبح أدباركم - شيئا ، اذكروا الله أعفة قياما . إلى غير ذلك ، وتبعه كثير من العرب عصبية ، فلهذا كان أكثر أتباعه من أسد وغطفان وطيئ . فسارت فزارة وغطفان إلى جنوب طيبة ، وأقامت طيئ على حدود أراضيهم ، وأسد بسميراء ، واجتمعت عبس وثعلبة بن سعد ومرة بالأبرق من الربذة ، واجتمع إليهم ناس من بني كنانة ، فلم تحملهم البلاد فافترقوا فرقتين ، أقامت فرقة بالأبرق ، وسارت فرقة إلى ذي القصة ، وأمدهم طليحة بأخيه حبال ، فكان عليهم وعلى من معهم من الدئل وليث ومدلج ، وأرسلوا إلى المدينة يبذلون الصلاة ويمنعون الزكاة ، فقال أبو بكر : والله لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه . وكان عقل الصدقة على أهل الصدقة وردهم ، فرجع وفدهم ، فأخبروهم بقلة من في المدينة وأطمعوهم فيها .
وجعل أبو بكر بعد مسيرة الوفد على أنقاب المدينة عليا وطلحة والزبير ، وألزم أهل وابن مسعود المدينة بحضور المسجد خوف الغارة من العدو لقربهم ، فما لبثوا إلا ثلاثا حتى طرقوا المدينة غارة مع الليل ، وخلفوا بعضهم بذي حسى ؛ ليكونوا لهم ردءا ، فوافوا ليلا الأنقاب وعليها المقاتلة فمنعوهم ، وأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر ، فخرج إلى أهل المسجد على النواضح ، فردوا العدو واتبعوهم حتى بلغوا ذا حسى ، فخرج عليهم الردء بأنحاء قد نفخوها وفيها الحبال ، ثم دهدهوها على الأرض ، فنفرت إبل المسلمين وهم عليها ، ورجعت بهم إلى المدينة ، ولم يصرع مسلم .
وظن الكفار بالمسلمين الوهن ، وبعثوا إلى أهل ذي القصة بالخبر ، فقدموا عليها ، [ ص: 203 ] وبات أبو بكر يعبي الناس ، وخرج على تعبية يمشي ، وعلى ميمنته ، وعلى ميسرته النعمان بن مقرن عبد الله بن مقرن وعلى أهل الساقة سويد بن مقرن . فما طلع الفجر إلا وهم والعدو على صعيد واحد ، فما شعروا بالمسلمين حتى وضعوا فيهم السيوف ، فما ذر قرن الشمس حتى ولوهم الأدبار ، وغلبوهم على عامة ظهرهم ، وقتل رجال ، واتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة ، وكان أول الفتح ، ووضع بها في عدد ، ورجع إلى النعمان بن مقرن المدينة ، فذل له المشركون . فوثب بنو عبس وذبيان على من فيهم من المسلمين فقتلوهم ، فحلف أبو بكر ليقتلن في المشركين بمن قتلوا من المسلمين وزيادة ، وازداد المسلمون قوة وثباتا .
وطرقت المدينة صدقات نفر كانوا على صدقة الناس ، بهم صفوان والزبرقان بن بدر ، وذلك لتمام ستين يوما من مخرج وعدي بن حاتم أسامة ، وقدم أسامة بعد ذلك بأيام ، وقيل : كانت غزوته وعوده في أربعين يوما . فلما قدم أسامة استخلفه أبو بكر على المدينة وجنده معه ؛ ليستريحوا ويريحوا ظهرهم ، ثم خرج فيمن كان معه ، فناشده المسلمون ليقيم ، فأبى وقال : لأواسينكم بنفسي . وسار إلى ذي حسى وذي القصة حتى نزل بالأبرق ، فقاتل من به ، فهزم الله المشركين وأخذ الحطيئة أسيرا ، فطارت عبس وبنو بكر ، وأقام أبو بكر بالأبرق أياما ، وغلب على بني ذبيان وبلادهم ، وحماها لدواب المسلمين وصدقاتهم .
ولما انهزمت عبس وذبيان رجعوا إلى طليحة وهو ببزاخة ، وكان رحل من سميراء إليها ، فأقام عليها ، وعاد أبو بكر إلى المدينة . فلما استراح أسامة وجنده ، وكان قد جاءهم صدقات كثيرة تفضل عليهم - قطع أبو بكر البعوث وعقد الألوية ، فعقد أحد عشر لواء ، عقد لواء وأمره لخالد بن الوليد ، فإذا فرغ سار إلى بطليحة بن خويلد مالك بن نويرة بالبطاح إن أقام له ، وعقد وأمره لعكرمة بن أبي جهل بمسيلمة ، وعقد للمهاجر بن أبي أمية وأمره بجنود العنسي ، ومعونة الأبناء على ، ثم يمضي إلى قيس بن مكشوح كندة بحضرموت ، وعقد لخالد بن سعيد ، وبعثه إلى مشارف الشام ، وعقد وأرسله إلى لعمرو بن العاص قضاعة ، وعقد لحذيفة بن محصن الغلفاني وأمره بأهل دبا ، وعقد لعرفجة [ ص: 204 ] بن هرثمة وأمره بمهرة ، وأمرهما أن يجتمعا وكل واحد منهما على صاحبه في عمله . وبعث شرحبيل بن حسنة في أثر وقال : إذا فرغ من عكرمة بن أبي جهل اليمامة فالحق بقضاعة وأنت على خيلك تقاتل أهل الردة . وعقد لمعن بن حاجز وأمره ببني سليم ومن معهم من هوازن ، وعقد لسويد بن مقرن وأمره بتهامة باليمن ، وعقد وأمره للعلاء بن الحضرمي بالبحرين ، ففصلت الأمراء من ذي القصة ، ولحق بكل أمير جنده ، وعهد إلى كل أمير ، وكتب إلى جميع المرتدين نسخة واحدة ، يأمرهم بمراجعة الإسلام ويحذرهم ، وسير الكتب إليهم مع رسله . ولما انهزمت عبس وذبيان ورجعوا إلى طليحة ببزاخة أرسل إلى جديلة والغوث من طيئ يأمرهم باللحاق به ، فتعجل إليه بعضهم ، وأمروا قومهم باللحاق بهم ، فقدموا على طليحة .
وكان أبو بكر بعث قبل عدي بن حاتم خالد إلى طيئ ، وأتبعه خالدا ، وأمره أن يبدأ بطيئ ، ومنهم يسير إلى بزاخة ، ثم يثلث بالبطاح ، ولا يبرح إذا فرغ من قوم حتى يأذن له . وأظهر أبو بكر للناس أنه خارج إلى خيبر بجيش حتى يلاقي خالدا ، يرهب العدو بذلك .
وقدم عدي على طيئ فدعاهم وخوفهم ، فأجابوه وقالوا له : استقبل الجيش فأخره عنا حتى نستخرج من عند طليحة منا ؛ لئلا يقتلهم . فاستقبل عدي خالدا وأخبره بالخبر ، فتأخر خالد ، وأرسلت طيئ إلى إخوانهم عند طليحة فلحقوا بهم ، فعادت طيئ إلى خالد بإسلامهم ، ولحق بالمسلمين ألف راكب منهم ، وكان خير مولود في أرض طيئ وأعظمه بركة عليهم .
وأرسل خالد بن الوليد عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم الأنصاري طليعة ، فلقيهما حبال أخو طليحة فقتلاه ، فبلغ خبره طليحة ، فخرج هو وأخوه سلمة ، فقتل طليحة عكاشة ، وقتل أخوه ثابتا ، ورجعا .
وأقبل خالد بالناس فرأوا عكاشة وثابتا قتيلين ، فجزع لذلك المسلمون ، وانصرف بهم خالد نحو طيئ ، فقالت له طيئ : نحن نكفيك قيسا ، فإن بني أسد حلفاؤنا . فقال : أي الطائفتين شئتم . فقال : لو نزل هذا على الذين هم أسرتي الأدنى فالأدنى لجاهدتهم عليه ، والله لا أمتنع عن جهاد عدي بن حاتم بني أسد لحلفهم . فقال له [ ص: 205 ] خالد : إن جهاد الفريقين جهاد ، لا تخالف رأي أصحابك ، وامض بهم إلى القوم الذين هم لقتالهم أنشط ، ثم تعبى لقتالهم ، ثم سار حتى التقيا على بزاخة ، وبنو عامر قريبا يتربصون على من تكون الدائرة ، قال : فاقتتل الناس على بزاخة .
وكان عيينة بن حصن مع طليحة في سبعمائة من بني فزارة ، فقاتلوا قتالا شديدا ، وطليحة متلفف في كسائه يتنبأ لهم ، فلما اشتدت الحرب كر عيينة على طليحة وقال له : هل جاءك جبرائيل بعد ؟ قال : لا ، فرجع فقاتل ، ثم كر على طليحة فقال له : لا أبا لك ! أجاءك جبرائيل ؟ قال : لا ، فقال عيينة : حتى متى ؟ قد والله بلغ منا ! ثم رجع فقاتل قتالا شديدا ثم كر على طليحة فقال : هل جاءك جبرائيل ؟ قال : نعم . قال : فماذا قال لك ؟ قال : قال لي : إن لك رحا كرحاه ، وحديثا لا تنساه . فقال عيينة : قد علم الله أنه سيكون حديث لا تنساه ، انصرفوا يا بني فزارة فإنه كذاب ، فانصرفوا وانهزم الناس .
وكان طليحة قد أعد فرسه وراحلته لامرأته النوار ، فلما غشوه ركب فرسه وحمل امرأته ، ثم نجا بها وقال : يا معشر فزارة ، من استطاع أن يفعل هكذا وينجو بامرأته فليفعل . ثم انهزم فلحق بالشام ، ثم نزل على كلب ، فأسلم حين بلغه أن أسدا وغطفان قد أسلموا ، ولم يزل مقيما في كلب حتى مات أبو بكر .
وكان خرج معتمرا في إمارة أبي بكر ومر بجنبات المدينة ، فقيل لأبي بكر : هذا طليحة ! فقال : ما أصنع به ؟ قد أسلم ! ثم أتى عمر فبايعه حين استخلف . فقال له : أنت قاتل عكاشة وثابت ؟ والله لا أحبك أبدا ! فقال : يا أمير المؤمنين ، ما يهمك من رجلين أكرمهما الله بيدي ، ولم يهني بأيديهما ! فبايعه عمر وقال له : ما بقي من كهانتك ؟ فقال ؟ نفخة أو نفختان بالكير . ثم رجع إلى قومه فأقام عندهم حتى خرج إلى العراق .
ولما انهزم الناس عن طليحة أسر عيينة بن حصن ، فقدم به على أبي بكر ، فكان صبيان المدينة يقولون له وهو مكتوف : يا عدو الله ، أكفرت بعد إيمانك ؟ فيقول : والله ما آمنت بالله طرفة عين . فتجاوز عنه أبو بكر وحقن دمه .
وأخذ من أصحاب طليحة رجل كان عالما به ، فسأله خالد عما كان يقول ، فقال : [ ص: 206 ] إن مما أتى به : والحمام واليمام ، والصرد الصوام ، قد صمن قبلكم بأعوام ، ليبلغن ملكنا العراق والشام .
قال : ولم يؤخذ منهم سبي ؛ لأنهم كانوا قد أحرزوا حريمهم ، فلما انهزموا أقروا بالإسلام خشية على عيالاتهم ، فآمنهم .
( حبال بكسر الحاء المهملة ، وفتح الباء الموحدة ، وبعد الألف لام . وذو القصة بفتح القاف ، والصاد المهملة . وذو حسى بضم الحاء المهملة ، والسين المهملة المفتوحة . ودبا بفتح الدال المهملة ، والباء الموحدة . وبزاخة بضم الباء الموحدة ، وبالزاي ، والخاء المعجمة ) .