لما رجعت سجاح إلى الجزيرة ارعوى مالك بن نويرة ، وندم وتحير في أمره ، وعرف وسماعة قبح ما أتيا ، فراجعا رجوعا حسنا ولم يتجبرا ، وأخرجا الصدقات فاستقبلا بها وكيع خالدا . وسار خالد بعد أن فرغ من فزارة وغطفان وأسد وطيئ يريد البطاح ، وبها مالك بن نويرة قد تردد عليه أمره ، وتخلفت الأنصار عن خالد وقالوا : ما هذا بعهد الخليفة إلينا ، إن نحن فرغنا من بزاخة أن نقيم حتى يكتب إلينا . فقال خالد : قد عهد إلي أن أمضي ، وأنا الأمير ، ولو لم يأت كتاب بما رأيته فرصة وكنت إن أعلمته فاتتني - لم أعلمه ، وكذلك لو ابتلينا بأمر ليس فيه منه عهد ؛ لم ندع أن نرى أفضل ما يحضرنا ، ثم نعمل به ، فأنا قاصد إلى مالك ومن معي ، ولست أكرههم . ومضى خالد وندمت الأنصار وقالوا : إن أصاب القوم خيرا حرمتموه ، وأن أصيبوا ليجتنبنكم الناس . فلحقوه .
ثم سار حتى قدم البطاح ، فلم يجد بها أحدا ، وكان مالك بن نويرة قد فرقهم ونهاهم عن الاجتماع ، وقال : يا بني يربوع ، إنا دعينا إلى هذا الأمر فأبطأنا عنه فلم نفلح ، [ ص: 213 ] وقد نظرت فيه فرأيت الأمر يتأتى لهم بغير سياسة ، وإذا الأمر لا يسوسه الناس ، فإياكم ومناوأة قوم صنع لهم ، فتفرقوا وادخلوا في هذا الأمر . فتفرقوا على ذلك ، ولما قدم خالد البطاح بث السرايا ، وأمرهم بداعية الإسلام ، وأن يأتوه بكل من لم يجب ، وإن امتنع أن يقتلوه ، وكان قد أوصاهم أبو بكر أن يؤذنوا إذا نزلوا منزلا ، فإن أذن القوم فكفوا عنهم ، وإن لم يؤذنوا فاقتلوا وانهبوا ، وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلوهم عن الزكاة ، فإن أقروا فاقبلوا منهم ، وإن أبوا فقاتلوهم .
قال : فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر من بني ثعلبة بن يربوع ، فاختلفت السرية فيهم ، وكان فيهم ، فكان فيمن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا ، فلما اختلفوا أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء ، فأمر أبو قتادة خالد مناديا فنادى : أدفئوا أسراكم ، وهي في لغة كنانة القتل ، فظن القوم أنه أراد القتل ، ولم يرد إلا الدفء ، فقتلوهم ، فقتل ضرار بن الأزور مالكا ، وسمع خالد الواعية ، فخرج وقد فرغوا منهم ، فقال : إذا أراد الله أمرا أصابه ، وتزوج خالد أم تميم امرأة مالك . فقال عمر لأبي بكر : إن سيف خالد فيه رهق ، وأكثر عليه في ذلك . فقال : هيه يا عمر ! تأول فأخطأ ، فارفع لسانك عن خالد ، فإني لا أشيم سيفا سله الله على الكافرين .
وودى مالكا ، وكتب إلى خالد أن يقدم عليه ، ففعل ، ودخل المسجد وعليه قباء وقد غرز في عمامته أسهما ، فقام إليه عمر فنزعها وحطمها وقال له : قتلت امرأ مسلما ، ثم نزوت على امرأته ، والله لأرجمنك بأحجارك ! وخالد لا يكلمه ، يظن أن رأي أبي بكر مثله ، ودخل على أبي بكر فأخبره الخبر واعتذر إليه ، فعذره وتجاوز عنه ، وعنفه في التزويج الذي كانت عليه العرب من كراهة أيام الحرب . فخرج خالد وعمر جالس فقال : هلم إلي يا ابن أم سلمة . فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه ، فلم يكلمه .
وقيل : إن المسلمين لما غشوا مالكا وأصحابه ليلا - أخذوا السلاح فقالوا : نحن المسلمون . فقال أصحاب مالك : ونحن المسلمون . قالوا لهم : ضعوا السلاح ، فوضعوه ثم صلوا ، وكان يعتذر في قتله أنه قال : ما إخال صاحبكم إلا قال كذا وكذا . فقال له : أوما تعده لك صاحبا ؟ ثم ضرب عنقه .
وقدم متمم بن نويرة على أبي بكر يطلب بدم أخيه ، ويسأله أن يرد عليهم سبيهم ، [ ص: 214 ] فأمر أبو بكر برد السبي ، وودى مالكا من بيت المال . ولما قدم على عمر قال له : ما بلغ بك الوجد على أخيك ؟ قال : بكيته حولا حتى أسعدت عيني الذاهبة عيني الصحيحة ، وما رأيت نارا قط إلا كدت أنقطع أسفا عليه ؛ لأنه كان يوقد ناره إلى الصبح مخافة أن يأتيه ضيف ولا يعرف مكانه . قال : فصفه لي . قال : كان يركب الفرس الحرون ، ويقود الجمل الثقال ، وهو بين المزادتين النضوختين في الليلة القرة ، وعليه شملة فلوت ، معتقلا رمحا خطلا ، فيسري ليلته ثم يصبح وكأن وجهه فلقة قمر . قال : أنشدني بعض ما قلت فيه ، فأنشده مرثيته التي يقول فيها :
وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكا
لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
فقال عمر : لو كنت أقول الشعر لرثيت أخي زيدا . فقال متمم : ولا سواء يا أمير المؤمنين ، لو كان أخي صرع مصرع أخيك لما بكيته . فقال عمر : ما عزاني أحد بأحسن مما عزيتني به .
وفي هذه الوقعة قتل الوليد وأبو عبيدة ابنا عمارة بن الوليد ، وهما ابنا أخي خالد ، لهما صحبة .