[ ص: 103 ] ذكر عدو الله  نمرود  وهلاكه  
ونرجع الآن إلى خبر عدو الله  نمرود  ، وما آل إليه أمره في دنياه ، وتمرده على الله تعالى ، وإملاء الله له ، وكان أول جبار في الأرض ، وكان إحراقه إبراهيم  ما قدمنا ذكره ، فأخرج إبراهيم    - عليه السلام - من مدينته وحلف أنه يطلب إله إبراهيم  ، فأخذ أربعة أفرخ نسور فرباهن باللحم ، والخمر حتى كبرن ، وغلظن ، فقرنهن بتابوت وقعد في ذلك التابوت فأخذ معه رجلا ومعه لحم لهن ، فطرن به حتى إذا ذهبن أشرف ينظر إلى الأرض فرأى الجبال تدب كالنمل ، ثم رفع لهن اللحم ونظر إلى الأرض فرآها يحيط بها بحر كأنها فلك في ماء ، ثم رفع طويلا فوقع في ظلمة فلم ير ما فوقه وما تحته ، ففزع وألقى اللحم ، فاتبعته النسور منقضات ، فلما نظرت الجبال إليهن وقد أقبلن منقضات وسمعن حفيفهن فزعت الجبال وكادت تزول ولم يفعلن ، وذلك قول الله تعالى : وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال    . وكانت طيرورتهن من بيت المقدس  ، ووقوعهن في جبل الدخان    . 
فلما رأى أنه لا يطيق شيئا أخذ في بنيان الصرح فبناه حتى علا وارتقى فوقه ينظر إلى إله إبراهيم  بزعمه وأحدث ، ولم يكن يحدث ، وأخذ الله بنيانهم من القواعد من أساس الصرح فسقط وتبلبلت الألسن يومئذ من الفزع ، فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا ، وكان لسان الناس قبل ذلك سريانيا . 
هكذا روي أنه لم يحدث ، وهذا ليس بشيء ، فإن الطبع البشري لم يخل منه إنسان حتى الأنبياء - صلوات الله عليهم - وهم أكثر اتصالا بالعالم العلوي ، وأشرف أنفسا ، ومع هذا فيأكلون ويشربون ويبولون ويتغوطون ، فلو نجا منه أحد لكان الأنبياء أولى   [ ص: 104 ] لشرفهم وقربهم من الله تعالى : وإن كان لكثرة ملكه فالصحيح أنه لم يملك مستقلا ، ولو ملك مستقلا لكان  الإسكندر  أكثر ملكا منه ومع هذا فلم يقل فيه شيء من هذا . 
قال   زيد بن أسلم     : إن الله تعالى بعث إلى  نمرود  بعد إبراهيم  ملكا يدعوه إلى الله أربع مرات ، فأبى ، وقال : أرب غيري ؟ فقال له الملك : اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام ، فجمع جموعه ، ففتح الله عليه بابا من البعوض ، فطلعت الشمس فلم يروها من كثرتها فبعثها الله عليهم فأكلتهم ولم يبق منهم إلا العظام ، والملك كما هو لم يصبه شيء ، فأرسل الله عليه بعوضة فدخلت في منخره فمكث يضرب رأسه بالمطارق فأرحم الناس به من يجمع يديه ويضرب بهما رأسه ، وكان ملكه ذلك أربعمائة سنة ، وأماته الله تعالى ، وهو الذي بنى الصرح . 
وقال جماعة : إن  نمرود بن كنعان  ملك مشرق الأرض ومغربها ، وهذا قول يدفعه أهل العلم بالسير ، وأخبار الملوك ، وذلك أنهم لا ينكرون أن مولد إبراهيم  كان أيام  الضحاك  الذي ذكرنا بعض أخباره فيما مضى ، وأنه كان ملك شرق الأرض وغربها . 
وقول القائل إن  الضحاك  الذي ملك الأرض هو  نمرود  ليس بصحيح ، لأن أهل العلم المتقدمين يذكرون أن نسب  نمرود  في النبط معروف ، وأن نسب  الضحاك  في الفرس مشهور ، وإنما  الضحاك  استعمل  نمرود  على السواد وما اتصل به يمنة ويسرة وجعله وولده عمالا على ذلك ، وكان هو يتنقل في البلاد ، وكان وطنه ووطن أجداده دنباوند  من جبال طبرستان  ، وهناك رمى به  أفريدون  حين ظفر به ، وكذلك  بختنصر     . 
ذكر بعضهم أنه ملك الأرض جميعها وليس كذلك ، وإنما كان إصبهبذ  ما بين الأهواز  إلى أرض الروم  من غربي دجلة  من قبل  لهراسب  ، لأن  لهراسب  كان مشتغلا بقتال   [ ص: 105 ] الترك  مقيما بإزائهم ببلخ  ، وهو بناها لما تطاول مقامه هناك لحرب الترك  ، ولم يملك أحد من النبط شبرا من الأرض مستقلا برأسه فكيف الأرض جميعها ؟ ! وإنما تطاولت مدة  نمرود  بالسواد أربعمائة سنة ثم دخل من نسله بعد هلاكه جيل يقال له  نبط بن قعود  ملك بعده مائة سنة ، ثم  كداوص بن نبط  ثمانين سنة ، ثم  بالش بن كداوص  مائة وعشرين سنة ، ثم  نمرود بن بالش  سنة وشهرا ، فذلك سبعمائة سنة وسنة وشهد أيام  الضحاك  ، وظن الناس في  نمرود  ما ذكرناه ، فلما ملك  أفريدون  وقهر الازدهاق قتل  نمرود بن بالش  وشرد النبط وقتل فيهم مقتلة عظيمة . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					