[ ص: 115 ] أيوب ، عليه السلام
وهو رجل من قصة الروم من ولد عيص ، وهو أيوب بن موص بن رازج بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم ، وقيل : موص بن روعيل بن عيص . وكانت زوجته التي أمر أن يضربها بالضغث ليا ابنة يعقوب بن إسحاق ، وقيل : هي رحمة ابنة أفراهيم بن يوسف ، وكانت أمه من ولد لوط ، وكان دينه التوحيد والإصلاح بين الناس ، وإذا أراد حاجة سجد ثم طلبها .
وكان من حديثه وسبب بلائه أن إبليس سمع تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب حين ذكره الله فحسده ، وسأل الله أن يسلطه عليه ليفتنه عن دينه ، فسلطه على ماله حسب ، فجمع إبليس عظماء أصحابه من العفاريت ، وكان لأيوب البثنية جميعها من [ ص: 116 ] أعمال دمشق بما فيها ، وكان له فيها ألف شاة برعاتها وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ومال ، ويحمل آلة الفدان أتان ، ولكل أتان ولد ، واثنان وما فوق ذلك ، فلما جمعهم إبليس قال : ما عندكم من القوة والمعرفة ، فإني قد تسلطت على مال أيوب . فقال كل منهم قولا ، فأرسلهم ، فأهلكوا ماله كله ، وأيوب يحمد الله ولا يرجع عن الجد في عبادته ، والشكر له على ما أعطاه ، والصبر على ما ابتلاه .
فلما رأى ذلك إبليس من أمره سأل الله أن يسلطه على ولده ، فسلطه عليهم ولم يجعل له سلطانا على جسده ولا عقله وقلبه ، فأهلك ولده كلهم ، ثم جاء إليه متمثلا بمعلمهم الذي كان يعلمهم الحكمة جريحا مشدوخا يرققه حتى رق أيوب فبكى وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه فسر بذلك إبليس .
ثم إن أيوب ندم لذلك وجد واستغفر ، فصعد حفظته من الملائكة بتوبته إلى الله قبل إبليس ، فلما لم يرجع أيوب عن عبادة ربه والصبر على ما ابتلاه به سأل الله تعالى أن يسلطه على جسده ، فسلطه على جسده ، فسلطه عليه خلا لسانه وقلبه وعقله فإنه لم يجعل له على ذلك سلطانا . فجاءه وهو ساجد فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده وصار أمره إلى أن انتثر لحمه وامتلأ جسده دودا ، فإن كانت الدودة لتسقط من جسده فيردها إليه ويقول : كلي من رزق الله ، وأصابه الجذام ، وكان أشد من ذلك عليه أنه كان يخرج في جسده مثل ثدي المرأة ثم يتفقأ ، وأنتن حتى لم يطق أحد يشم ريحه ، فأخرجه أهل القرية منها إلى الكناسة خارج القرية لا يقربه أحد إلا زوجته ، وكانت تختلف إليه بما يصلحه ، فبقي مطروحا على الكناسة سبع سنين ما يسأل الله أن يكشف ما به ، وما على وجه الأرض أكرم على الله منه .
وقيل : كان سبب بلائه أن أرض الشام أجدبت فأرسل فرعون إلى أيوب أن هلم إلينا فإن لك عندنا سعة ، فأقبل بأهله وخيله وماشيته ، فأقطعهم فرعون القطائع . ثم إن شعيبا النبي دخل إلى فرعون فقال : يا فرعون ، أما تخاف أن يغضب الله غضبة [ ص: 117 ] فيغضب لغضبه أهل السماء ، وأهل الأرض والبحار ، والجبال ؟ وأيوب ساكت لا يتكلم ، فلما خرجا أوحى الله إلى أيوب : يا أيوب ، سكت عن فرعون لذهابك إلى أرضه ، استعد للبلاء . فقال أيوب : أما كنت أكفل اليتيم وأؤوي الغريب ، وأشبع الجائع ، وأكفي الأرملة ؟ فمرت سحابة يسمع فيها عشرة آلاف من الصواعق يقولون : من فعل بك ذلك يا أيوب ؟ فأخذ ترابا فوضعه على رأسه وقال : أنت يا رب ، فأوحى الله إليه : استعد للبلاء . قال : فديني ؟ قال : أسلمه لك . قال : فما أبالي .
وقيل : كان السبب غير ذلك ، وهو نحو مما ذكرنا .
فلما ابتلاه الله واشتد عليه البلاء قالت له امرأته : إنك رجل مجاب الدعوة فادع الله أن يشفيك . فقال : كنا في النعماء سبعين سنة فلنصبر في البلاء سبعين سنة ، والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة .
وقيل : إنما أقسم ليجلدنها لأن إبليس ظهر لها وقال : بم أصابكم ما أصابكم ؟ قالت : بقدر الله . قال : وهذا أيضا بقدر الله فاتبعيني ، فاتبعته ، فأراها جميع ما ذهب منهم في واد ، وقال : اسجدي لي وأرده عليكم . فقالت : إن لي زوجا أستأمره . فلما أخبرت أيوب قال : ألم تعلمي أن ذلك الشيطان ؟ لئن شفيت لأجلدنك مائة جلدة ، وأبعدها ، وقال لها : طعامك وشرابك علي حرام لا أذوق مما تأتيني به شيئا فابعدي عني فلا أراك . فذهبت عنه ، فلما رأى أيوب أن امرأته قد طردها وليس عنده طعام ، ولا شراب ، ولا صديق خر ساجدا ، وقال : رب أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين كرر ذلك . فقيل له : ارفع رأسك فقد استجيب لك ، اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ، ورد الله إليه جسده وصورته .
[ ص: 118 ] وأما امرأته فقالت : كيف أتركه ، وليس عنده أحد ، يموت جوعا وتأكله السباع ؟ فرجعت إليه فرأت أيوب وقد عوفي ، فلم تعرفه ، فعجبت حيث لم تره على حاله ، فقالت له : يا عبد الله ، هل رأيت ذلك الرجل المبتلى الذي كان ههنا ؟ قال : وهل تعرفينه إذا رأيته ؟ قالت : نعم . قال : هو أنا . فعرفته .
وقيل : إنما قال : مسني الضر لما وصل الدود إلى لسانه وقلبه خاف أن يبطل عن ذكر الله تعالى والفكر . ورد الله إليه أهله ومثلهم معهم ، قيل هم بأعيانهم ، وقيل : رد الله إليه امرأته ورد إليها شبابها فولدت له ستة وعشرين ذكرا وأنزل الله إليه ملكا فقال : يا أيوب ، إن الله يقرئك السلام لصبرك على البلاء . اخرج إلى أندرك . فخرج إليه ، فبعث الله سحابة فألقت عليه جرادا من ذهب ، وكانت الجرادة تذهب فيتبعها حتى يردها في أندره ، فقال الملك : أما تشبع من الداخل حتى تتبع الخارج ؟ فقال : إن هذه البركة من بركات ربي لست أشبع منها .
وعاش أيوب بعد أن رفع عنه البلاء سبعين سنة ، ولما عوفي أمره الله أن يأخذ عرجونا من النخل فيه مائة شمراخ فيضرب به زوجته ليبر من يمينه ، ففعل ذلك .
وقول أيوب : رب إني مسني الضر ، دعاء ليس بشكوى ، ودليله قوله تعالى : فاستجبنا له .
وكان من دعاء أيوب : أعوذ بالله من جار عينه تراني إن رأى حسنة سترها وإن رأى سيئة ذكرها . وقيل : كان سبب دعائه أنه كان قد اتبعه ثلاثة نفر على دينه اسم أحدهم بلدد [ ص: 119 ] والآخر اليفر ، والثالث صافر ، فانطلقوا إليه وهو في البلاء فبكتوه أشد تبكيت ، وقالوا له : لقد أذنبت ذنبا ما أذنبه أحد ، فلهذا لم يكشف العذاب عنك . وطال الجدال بينهم وبينه ، فقال فتى كان معهم لهم كلاما يرد عليهم ، فقال : قد تركتم من القول أحسنه ، ومن الرأي أصوبه ، ومن الأمر أجمله ، وقد كان لأيوب عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم ، فهل تدرون حق من انتقصتم وحرمة من انتهكتم ، ومن الرجل الذي عبتم ؟ ألم تعلموا أن أيوب نبي الله وخيرته من خلقه يومكم هذا ؟ ثم لم تعلموا ولم يعلمكم الله أنه سخط شيئا من أمره ولا أنه نزع شيئا من الكرامة التي كرم الله بها عباده ولا أن أيوب فعل غير الحق في طول ما صحبتموه ، فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ووضعه في نفوسكم ، فقد علمتم أن الله يبتلي النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين وليس بلاؤه لأولئك دليلا على سخطه عليهم ولا على هوانهم عليه ولكنها كرامة وخيرة لهم . وأطال في هذا النحو من الكلام .
ثم قال لهم : وقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يكل ألسنتكم ويكسر قلوبكم ويقطع حجتكم ، ألم تعلموا أن لله عبادا أسكتتهم خشيته عن الكلام من غير عي ولا بكم ؟ وإنهم لهم الفصحاء الألباء العالمون بالله وآياته ، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انكسرت قلوبهم ، وانقطعت ألسنتهم ، وطاشت أحلامهم ، وعقولهم فزعا من الله وهيبة له ، فإذا أفاقوا استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية يعدون أنفسهم مع الظالمين وإنهم لأبرار ، ومع المقصرين وإنهم لأكياس أتقياء ، ولكنهم لا يستكثرون لله - عز وجل - الكثير ولا يرضون له القليل ولا يدلون عليه بالأعمال فهم أينما لقيتهم خائفون مهيمون وجلون .
فلما سمع أيوب كلامه قال : إن الله يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير ، والكبير ، فمتى كانت في القلب ظهرت على اللسان ولا تكون الحكمة من قبل السن ، والشيبة ، ولا طول التجربة ، وإذا جعل الله تعالى عبدا حكيما عند الصبا لم تسقط منزلته عند الحكام . ثم أقبل على الثلاثة ، فقال : رهبتم قبل أن تسترهبوا ، وبكيتم قبل أن [ ص: 120 ] تضربوا ، كيف بكم لو قلت لكم تصدقوا عني بأموالكم لعل الله أن يخلصني ، أو قربوا قربانا لعل الله أن يتقبل ويرضى عني ؟ وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم فظننتم أنكم عوفيتم بإحسانكم فبغيتم وتعززتم ، لو صدقتم ونظرتم بينكم وبين ربكم لوجدتم لكم عيوبا سترها الله بالعافية ، وقد كنت فيما خلا والرجال يوقرونني وأنا مسموع كلامي ، معروف من حقي ، منتصف من خصمي ، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم ، فأنتم أشد علي من مصيبتي .
ثم أعرض عنهم ، وأقبل على ربه مستغيثا به متضرعا إليه ، فقال : رب ، لأي شيء خلقتني ! ليتني إن كرهتني لم تخلقني ، يا ليتني كنت حيضة ملقاة ، ويا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت فصرفت وجهك الكريم عني ! لو كنت أمتني فالموت أجمل بي ! ألم أكن للغريب دارا ، وللمسكين قرارا ، ولليتيم وليا ، وللأرملة قيما ؟ إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فالمن لك ، وإن أسأت فبيدك عقوبتي ! جعلتني للبلاء غرضا فقد وقع علي البلاء لو سلطته على جبل لضعف عن حمله فكيف يحمله ضعفي ! ذهب المال فصرت أسأل بكفي فيطعمني من كنت أعوله اللقمة الواحدة فيمنها علي ويعيرني ! هلك أولادي ، ولو بقي أحدهم أعانني . فقد ملتني أهلي وعقني أرحامي فتنكرت معارفي ، ورغب عني صديقي ، وجحدت حقوقي ، ونسيت صنائعي . أصرخ فلا يصرخونني ، وأعتذر فلا يعذرونني . دعوت غلامي فلم يجبني ، وتضرعت إلى أمتي فلم ترحمني ، وإن قضاءك هو الذي آذاني وأقمأني ، وإن سلطانك هو الذي أسقمني . فلو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم ملء فمي ، ثم كان ينبغي للعبد أن يحاج مولاه عن نفسه - لرجوت أن تعافيني عند ذلك ، ولكنه ألقاني وعلا عني فهو يراني ولا أراه ، ويسمعني ولا أسمعه ، لا نظر إلي فرحمني ، ولا دنا مني فأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي .
فلما قال أيوب ذلك أظلتهم غمامة ونودي منها : يا أيوب إن الله يقول قد دنوت منك ولم أزل منك قريبا ، فقم فأدل بحجتك ، وتكلم ببراءتك ، وقم مقام جبار ، فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار . تجعل الزيار في فم الأسد ، واللجام في فم التنين ، [ ص: 121 ] وتكيل مكيالا من النور ، وتزن مثقالا من الريح ، وتصر صرة من الشمس ، وترد أمس . لقد منتك نفسك أمرا لا تبلغه بمثل قوتك . أردت أن تكابرني بضعفك أم تخاصمني بعيك أم تحاجني بخطلك ! أين أنت مني يوم خلقت الأرض ؟ هل علمت بأي مقدار قدرتها ؟ أين كنت معي يوم رفعت السماء سقفا في الهواء لا بعلائق ولا بدعائم تحملها ؟ هل تبلغ حكمتك أن تجري نورها ، أو تسير نجومها ، أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها ؟ وذكر أشياء من مصنوعات الله .
فقال أيوب : قصرت عن هذا الأمر ! ليت الأرض انشقت لي فذهبت فيها ولم أتكلم بشيء يسخطك ! إلهي اجتمع علي البلاء ، وأنا أعلم أن كل الذي ذكرت صنع يديك ، وتدبير حكمتك لا يعجزك شيء ولا تخفى عليك خافية ، تعلم ما تخفي القلوب ، وقد علمت بلائي ما لم أكن أعلمه . كنت أسمع بسطوتك سمعا فأما الآن فهو نظر العين . وإنما تكلمت بما تكلمت به لتعذرني ، وسكت لترحمني ، وقد وضعت يدي على فمي ، وعضضت على لساني ، وألصقت بالتراب خدي فدسست فيه وجهي فلا أعود لشيء تكرهه . ودعا .
فقال الله : يا أيوب ، نفذ فيك حكمي ، وسبقت رحمتي غضبي ، قد غفرت لك ورددت عليك أهلك ، ومالك ، ومثلهم معهم لتكون لمن خلفك آية وعبرة لأهل البلاء وعزاء للصابرين ، فـ اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فيه شفاء ، وقرب عن أصحابك قربانا واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك . فركض برجله فانفجرت له عين ماء ، فاغتسل فيها ، فرفع الله عنه البلاء ، ثم خرج فجلس وأقبلت امرأته فسألته عنه فقال : هل تعرفينه ؟ قالت : نعم ، مالي لا أعرفه ! فتبسم ، فعرفته بضحكه ، فاعتنقته فلم تفارقه من عناقه حتى مر بهما كل مال لهما وولد .
وإنما ذكرته قبل يوسف وقصته لما ذكر بعضهم من أمره وأنه كان نبيا في عهد يعقوب .
[ ص: 122 ] وذكر أن عمر أيوب كان ثلاثا وتسعين سنة ، وأنه أوصى عند موته إلى ابنه حومل ، وأن الله بعث بعده ابنه بشر بن أيوب نبيا وسماه ذا الكفل ، وكان مقيما بالشام حتى مات ، وكان عمره خمسا وسبعين سنة ، فأوصى إلى ابنه عبدان ، وأن الله بعث بعده شعيب بن ضيعون بن عنقا بن ثابت بن مدين بن إبراهيم - عليه السلام - .