قال : خرج المسور بن مخرمة يطوف يوما في السوق ، فلقيه عمر بن الخطاب أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة ، وكان نصرانيا ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أعدني على فإن علي خراجا كثيرا . قال : وكم خراجك ؟ قال : درهمان كل يوم . قال : وأيش صناعتك ؟ قال : نجار ، نقاش ، حداد . قال : فما أرى خراجك كثيرا على ما تصنع من الأعمال ، قد بلغني أنك تقول : لو أردت أن أصنع رحى تطحن بالريح لفعلت ! قال : نعم . قال : فاعمل لي رحى . قال : لئن سلمت لأعملن لك رحى يتحدث بها من بالمشرق والمغرب ! ثم انصرف عنه . فقال المغيرة بن شعبة عمر : لقد أوعدني العبد الآن .
ثم انصرف عمر إلى منزله ، فلما كان الغد جاءه فقال له : يا أمير المؤمنين ، اعهد فإنك ميت في ثلاث ليال . قال : وما يدريك ؟ قال : أجده في كتاب التوراة . قال كعب الأحبار عمر : [ آلله ! إنك ] لتجد في التوراة ؟ قال : اللهم لا ولكني [ ص: 428 ] أجد حليتك وصفتك وأنك قد فني أجلك . قال : عمر بن الخطاب وعمر لا يحس وجعا ! فلما كان الغد جاءه كعب فقال : بقي يومان . فلما كان الغد جاءه كعب فقال : مضى يومان وبقي يوم . فلما أصبح خرج عمر إلى الصلاة وكان يوكل بالصفوف رجالا فإذا استوت كبر ، ودخل أبو لؤلؤة في الناس وبيده خنجر له رأسان نصابه في وسطه ، فضرب عمر ست ضربات إحداهن تحت سرته وهي التي قتلته ، وقتل معه كليب بن أبي البكير الليثي وكان خلفه ، وقتل جماعة غيره .
فلما وجد عمر حر السلاح سقط ، وأمر فصلى بالناس ، عبد الرحمن بن عوف وعمر طريح ، فاحتمل فأدخل بيته ، ودعا عبد الرحمن فقال له : إني أريد أن أعهد إليك . قال : أتشير علي بذلك ؟ قال : اللهم لا . قال : والله لا أدخل فيه أبدا . قال : فهبني صمتا حتى أعهد إلى النفر الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض . ثم دعاعليا وعثمان والزبير وسعدا فقال : انتظروا أخاكم طلحة ثلاثا ، فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم ، أنشدك الله يا علي إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل بني هاشم على رقاب الناس ، أنشدك الله يا عثمان إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل بني أبي معيط على رقاب الناس ، أنشدك الله يا سعد إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل أقاربك على رقاب الناس ، قوموا فتشاوروا ثم اقضوا أمركم وليصل بالناس صهيب .
ثم دعا ، فقال : قم على بابهم فلا تدع أحدا يدخل إليهم . وأوصي الخليفة من بعدي أبا طلحة الأنصاري بالأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان ، أن يحسن إلى محسنهم ويعفو عن مسيئهم ، وأوصي الخليفة بالعرب ، فإنهم مادة الإسلام ، أن يؤخذ من صدقاتهم حقها فتوضع في فقرائهم ، وأوصي الخليفة بذمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يوفي لهم بعهدهم ، اللهم هل بلغت ؟ لقد تركت الخليفة من بعدي على أنقى من الراحة ، يا عبد الله بن عمر ، اخرج فانظر من قتلني .
قال : يا أمير المؤمنين ، قتلك أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة . قال : الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل سجد لله سجدة واحدة ! يا عبد الله بن عمر ، اذهب إلى عائشة فسلها أن تأذن لي أن أدفن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر . يا عبد الله ، إن اختلف القوم فكن مع الأكثر ، فإن تشاوروا فكن مع الحزب الذي فيه ، يا [ ص: 429 ] عبد الرحمن بن عوف عبد الله ، ائذن للناس . فجعل يدخل عليه المهاجرون والأنصار فيسلمون عليه ويقول لهم : أهذا عن ملإ منكم ؟ فيقولون : معاذ الله ! قال : ودخل مع الناس فلما رآه كعب الأحبار عمر قال :
توعدني كعب ثلاثا أعدها ولا شك أن القول ما قال لي كعب وما بي حذار الموت ، إني لميت
، ولكن حذار الذنب يتبعه الذنب
ودخل عليه علي يعوده فقعد عند رأسه ، وجاء فأثنى عليه ، فقال له ابن عباس عمر : أنت لي بهذا يا ؟ فأومأ إليه ابن عباس علي أن قل نعم . فقال : نعم . فقال ابن عباس عمر : لا تغرني أنت وأصحابك . ثم قال : يا عبد الله ، خذ رأسي عن الوسادة فضعه في التراب لعل الله - جل ذكره - ينظر إلي فيرحمني ، والله لو أن لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع .
ودعي له طبيب من بني الحارث بن كعب فسقاه نبيذا فخرج غير متغير ، فسقاه لبنا فخرج كذلك أيضا ، فقال له : اعهد يا أمير المؤمنين . قال : قد فرغت .
ولما احتضر ورأسه في حجر ولده عبد الله قال :
ظلوم لنفسي غير أني مسلم أصلي الصلاة كلها وأصوم
ولم يزل يذكر الله تعالى ويديم الشهادة إلى أن توفي ليلة الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين . وقيل : طعن يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة ودفن يوم الأحد هلال محرم سنة أربع وعشرين .
وكانت ولايته عشر سنين وستة أشهر وثمانية أيام ، وبويع عثمان لثلاث مضين من المحرم . وقيل : كانت وفاته لأربع بقين من [ ص: 430 ] ذي الحجة ، واستقبل بخلافته هلال محرم سنة أربع وعشرين . وكانت خلافة عمر على هذا القول عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام . وصلى عليه صهيب ، وحمل إلى بيت عائشة ، ودفن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ، ونزل في قبره عثمان ، وعلي ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف وسعد ، . وعبد الله بن عمر