قيل : وفي هذه السنة أظهر الخريت بن راشد الناجي الخلاف على علي ، فجاء إلى أمير المؤمنين ، وكان معه ثلاثمائة من بني ناجية خرجوا مع علي من البصرة ، فشهدوا معه الجمل وصفين ، وأقاموا معه بالكوفة إلى هذا الوقت ، فحضر عند علي في ثلاثين راكبا فقال له : يا علي ، والله لا أطيع أمرك ولا أصلي خلفك ، وإني غدا مفارق لك - وذلك بعد تحكيم الحكمين - . فقال له ثكلتك أمك ! إذا تعصي ربك ، وتنكث عهدك ، ولا تضر إلا نفسك ! خبرني لم تفعل ذلك ؟ فقال : لأنك حكمت وضعفت عن الحق ، وركنت إلى القوم الذين ظلموا ، فأنا عليك زار ، وعليهم ناقم ، ولكم جميعا مباين . فقال له علي : هلم أدارسك الكتاب ، وأناظرك في السنن ، وأفاتحك أمورا أنا أعلم بها منك ، فلعلك تعرف ما أنت له الآن منكر ، قال : فإني عائد إليك . قال : لا يستهوينك الشيطان ، ولا يستخفنك الجهال ، والله لئن استرشدتني وقبلت مني لأهدينك سبيل الرشاد .
[ ص: 715 ] فخرج من عنده منصرفا إلى أهله ، وسار من ليلته هو وأصحابه . فلما سمع بمسيرهم علي قال : بعدا لهم كما بعدت ثمود ! إن الشيطان اليوم استهواهم وأضلهم ، وهو غدا متبرئ منهم . فقال له زياد بن خصفة البكري : يا أمير المؤمنين ، إنه لم يعظم علينا فقدهم فتأسى عليهم ، إنهم قل ما يزيدون في عددنا لو أقاموا ، ولقل ما ينقصون من عددنا بخروجهم عنا ، ولكنا نخاف أن يفسدوا علينا جماعة كثيرة ممن يقدمون عليك من أهل طاعتك ، فأذن لي في اتباعهم حتى أردهم عليك . فقال : أتدري أين توجهوا ؟ قال : لا ، ولكني أسأل وأتبع الأثر . فقال له : اخرج - رحمك الله - وانزل دير أبي موسى ، وأقم حتى يأتيك أمري ، فإن كانوا ظاهرين فإن عمالي سيكتبون بخبرهم .
فخرج زياد فأتى داره ، وجمع أصحابه من بكر بن وائل وأعلمهم الخبر ، فسار معه مائة وثلاثون رجلا ، فقال : حسبي . ثم سار حتى أتى دير أبي موسى ، فنزله يوما ينتظر أمر علي ، وأتى عليا كتاب من قرظة بن كعب الأنصاري يخبره أنهم توجهوا نحو نفر ، وأنهم قتلوا رجلا من الدهاقين كان أسلم . فأرسل علي إلى زياد يأمره باتباعهم ، ويخبره خبرهم وأنهم قتلوا رجلا مسلما ، ويأمره بردهم إليه ، فإن أبوا يناجزهم ، وسير الكتاب مع عبد الله بن وال ، فاستأذنه عبد الله في المسير مع زياد ، فأذن له ، وقال له : إني لأرجو أن تكون من أعواني على الحق وأنصاري على القوم الظالمين . قال ابن وال : فوالله ما أحب أن لي بمقالته تلك حمر النعم .
وسار بكتاب علي إلى زياد ، وساروا حتى أتوا نفر ، فقيل إنهم ساروا نحو جرجرايا ، فتبعوا آثارهم حتى أدركوهم بالمذار وهم نزول قد أقاموا يومهم وليلتهم واستراحوا ، فأتاهم زياد وقد تقطع أصحابه وتعبوا ، فلما رأوهم ركبوا خيولهم ، وقال لهم الخريت : أخبروني ما تريدون . فقال له زياد ، وكان مجربا رفيقا : قد ترى ما بنا من التعب ، والذي جئناك له لا يصلحه الكلام علانية ، ولكن ننزل ، ثم نخلو جميعا فنتذاكر أمرنا ، فإن رأيت ما جئناك به حظا لنفسك قبلته ، وإن رأينا فيما نسمع منك أمرا نرجو فيه العافية لم نرده عليك . قال : فانزل . فنزل زياد وأصحابه على ماء هناك ، وأكلوا شيئا وعلقوا على دوابهم ، ووقف زياد في خمسة فوارس بين أصحابه وبين القوم ، وكانوا قد نزلوا أيضا ، [ ص: 716 ] وقال زياد لأصحابه : إن عدتنا كعدتهم ، وأرى أمرنا يصير إلى القتال ، فلا تكونوا أعجز الفريقين .
وخرج زياد إلى الخريت فسمعهم يقولون : جاءنا القوم وهم كالون تعبون ، فتركناهم حتى استراحوا ، هذا والله سوء الرأي . فدعاه زياد وقال له : ما الذي نقمت على أمير المؤمنين وعلينا حتى فارقتنا ؟ فقال : لم أرض صاحبكم إماما ولا سيرتكم سيرة ، فرأيت أن أعتزل وأكون مع من يدعو إلى الشورى ، فقال له زياد : وهل يجتمع الناس على رجل يداني صاحبك الذي فارقته علما بالله وسنته وكتابه مع قرابته من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وسابقته في الإسلام ؟ فقال له : ذلك لا أقول لك . فقال له زياد : ففيم قتلت ذلك الرجل المسلم ؟ فقال له : ما أنا قتلته وإنما قتله طائفة من أصحابي . قال : فادفعهم إلينا . قال : ما لي إلى ذلك سبيل . فدعا زياد أصحابه ، ودعا الخريت أصحابه ، فاقتتلوا قتالا شديدا تطاعنوا بالرماح حتى لم يبق رمح ، وتضاربوا بالسيوف حتى انحنت ، وعقرت عامة خيولهم ، وكثرت الجراحة فيهم ، وقتل من أصحاب زياد رجلان ومن أولئك خمسة ، وجاء الليل فحجز بينهما ، وقد كره بعضهم بعضا ، وجرح زياد ، فسار الخريت من الليل ، وسار زياد إلى البصرة ، وأتاهم خبر الخريت أنه أتى الأهواز ، فنزل بجانب منها ، وتلاحق به ناس من أصحابهم ، فصاروا نحو مائتين ، فكتب زياد إلى علي بخبرهم ، وأنه مقيم يداوي الجرحى وينتظر أمره .
فلما قرأ علي كتابه قام إليه معقل بن قيس فقال : يا أمير المؤمنين كان ينبغي أن يكون مع من يطلب هؤلاء مكان كل واحد منهم عشرة ، فإذا لحقوهم استأصلوهم وقطعوا دابرهم ، فأما أن يلقاهم عددهم ، فلعمري ليصبرن لهم ، فإن العدة تصبر للعدة . فقال : تجهز يا معقل إليهم ، وندب معه ألفين من أهل الكوفة ، منهم يزيد بن المعقل الأسدي . وكتب علي إلى يأمره أن يبعث من ابن عباس أهل البصرة رجلا شجاعا معروفا بالصلاح في ألفي رجل إلى معقل - وهو أمير أصحابه - حتى يأتي معقلا ، فإذا لقيه كان معقل الأمير . وكتب إلى زياد بن خصفة يشكره ، ويأمره بالعود .
واجتمع على الخريت الناجي علوج من أهل الأهواز كثير ، أرادوا كسر الخراج ، [ ص: 717 ] ولصوص وطائفة أخرى من العرب ترى رأيه ، وطمع أهل الخراج في كسره فكسروه ، وأخرجوا من سهل بن حنيف فارس ، وكان عاملا لعلي عليها ( في قول من يزعم أنه لم يمت سنة سبع وثلاثين ) . فقال ابن عباس لعلي : أنا أكفيك فارس بزياد - يعني ابن أبيه - فأمره بإرساله إليها ( وتعجيل تسييره ) ، فأرسل زيادا إليها في جمع كثير ، فوطئ بلاد فارس ، فأدوا الخراج واستقاموا . وسار معقل بن قيس ، ووصاه علي فقال له : اتق الله ما استطعت ، ولا تبغ على أهل القبلة ، ولا تظلم أهل الذمة ، ولا تتكبر ، فإن الله لا يحب المتكبرين .
فقدم معقل الأهواز ينتظر مدد البصرة ، فأبطأ عليه ، فسار عن الأهواز يطلب الخريت ، فلم يسر إلا يوما حتى أدركه المدد مع خالد بن معدان الطائي ، فساروا جميعا ، فلحقوهم قريب جبل من جبال رامهرمز ، فصف معقل أصحابه ، فجعل على ميمنته يزيد بن المعقل ، وعلى ميسرته منجاب بن راشد الضبي من أهل البصرة ، وصف الخريت أصحابه فجعل من معه من العرب ميمنة ، ومن معه من أهل البلد والعلوج ميسرة ، ومعهم الأكراد ، وحرض كل واحد منهما أصحابه ، وحرك معقل رأسه مرتين ، ثم حمل في الثالثة ، فصبروا له ساعة ثم انهزموا ، فقتل أصحاب معقل منهم سبعين رجلا من بني ناجية ، ومن معهم من العرب ، وقتلوا نحوا من ثلاثمائة من العلوج والأكراد ، وانهزم الخريت بن راشد فلحق بأسياف البحر ، وبها جماعة كثيرة من قومه ، فما زال يسير فيهم ويدعوهم إلى خلاف علي ويخبرهم أن الهدى في حربه ، حتى اتبعه منهم ناس كثير .
وأقام معقل بأرض الأهواز ، وكتب إلى علي بالفتح ، فقرأ علي الكتاب على أصحابه واستشارهم ، قالوا كلهم : نرى أن تأمر معقلا أن يتبع آثار الفاسق حتى يقتله أو ينفيه ، فإنا لا نأمن أن يفسد عليك الناس . فكتب إلى معقل يثني عليه وعلى من معه ، ويأمره باتباعه [ ص: 718 ] وقتله أو نفيه . فسأل معقل عنه ، فأخبر بمكانه بالأسياف وأنه قد رد قومه عن طاعة علي ، وأفسد من عنده ( من عبد القيس وسائر العرب ، وكان ) قومه قد منعوا الصدقة عام صفين وذلك العام . فسار إليهم معقل ، فأخذ على فارس ، وانتهى إلى أسياف البحر .
فلما سمع الخريت بمسيره قال لمن معه من الخوارج : أنا على رأيكم وإن عليا ، لم ينبغ له أن يحكم . وقال للآخرين من أصحابه : إن عليا حكم ورضي ، فخلعه حكمه الذي ارتضاه ، وهذا كان الرأي الذي خرج عليه من الكوفة وإليه كان يذهب . وقال سرا للعثمانية : أنا والله على رأيكم ، قد والله قتل عثمان مظلوما . فأرضى كل صنف منهم . وقال لمن منع الصدقة : شدوا أيديكم على صدقاتكم ، وصلوا بها أرحامكم . ( وكان فيها نصارى كثير قد أسلموا ، فلما اختلف الناس قالوا : والله لديننا الذي خرجنا منه خير من دين هؤلاء ، لا ينهاهم دينهم عن سفك الدماء . ( فقال لهم الخريت : ويحكم ! لا ينجيكم من القتل إلا قتل هؤلاء القوم ) والصبر ، فإن حكمهم فيمن أسلم ثم ارتد أن يقتل ، ولا يقبلون منه توبة ولا عذرا . فخدعهم جميعهم . وأتاه من كان من بني ناجية وغيرهم خلق كثير . فلما انتهى معقل إليه نصب راية أمان وقال : من أتاهم من الناس فهو آمن ، إلا الخريت وأصحابه الذين حاربونا أول مرة ، فتفرق عن الخريت جل من كان معه من غير قومه ، وعبأ معقل أصحابه ، وزحف نحو الخريت ومعه قومه مسلمهم ونصرانيهم ومانع الزكاة منهم . فقال الخريت لمن معه : قاتلوا عن حريمكم وأولادكم ، فوالله لئن ظهروا عليكم ليقتلنكم وليسبنكم . فقال له رجل من قومه : هذا والله ما جرته علينا يدك ولسانك . فقال : سبق السيف العذل .
وسار معقل في الناس يحرضهم ويقول : أيها الناس ما تريدون أفضل مما سبق لكم من الأجر العظيم ؟ إن الله ساقكم إلى قوم منعوا الصدقة ، وارتدوا عن الإسلام ، ونكثوا البيعة ظلما ، فأشهد لمن يقتل منكم بالجنة ، ومن بقي منكم فإن الله مقر عينه بالفتح . ثم حمل معقل وجميع من معه ، فقاتلوا قتالا شديدا ، وصبروا له ، ثم إن [ ص: 719 ] النعمان بن صهبان الراسبي بصر بالخريت فحمل عليه فطعنه ، فصرع عن دابته ، ثم اختلفا ضربتين ، فقتله النعمان ، وقتل معه في المعركة سبعون ومائة رجل ، وذهب الباقون يمينا وشمالا ، وسبى معقل من أدرك من حريمهم وذرياتهم ، وأخذ رجالا كثيرا ، وأما من كان ارتد فعرض عليهم الإسلام فرجعوا ، فخلى سبيلهم وسبيل عيالهم ، إلا شيخا كبيرا نصرانيا منهم يقال له الرماحس لم يسلم فقتله ، وجمع من منع الصدقة ، وأخذ منهم صدقة عامين ، وأما النصارى وعيالهم فاحتملهم مقبلا بهم ، وأقبل المسلمون معهم يشيعونهم ، فلما ودعوهم بكى الرجال والنساء بعضهم إلى بعض ، حتى رحمهم الناس .
وكتب معقل إلى علي بالفتح ، ثم أقبل بهم حتى مر على مصقلة بن هبيرة الشيباني ، وهو عامل علي على أردشيرخره ، وهم خمسمائة إنسان ، فبكى النساء والصبيان وصاح الرجال : يا أبا الفضل ! يا حامي الرجال ( ومأوى المعضب ) ، وفكاك العناة ، امنن علينا واشترنا وأعتقنا ! فقال مصقلة : أقسم بالله لأتصدقن عليكم ! إن الله يجزي المتصدقين . فبلغ قوله معقلا فقال : والله لو أعلم أنه قالها توجعا عليهم وإزراء علينا لضربت عنقه ، ولو كان في ذلك تفاني تميم وبكر . ثم إن مصقلة اشتراهم من معقل بخمسمائة ألف ، فقال له معقل : عجل المال إلى أمير المؤمنين . فقال : أنا أبعث الآن ببعضه ، ثم كذلك حتى لا يبقى منه شيء .
وأقبل معقل إلى علي فأخبره بما كان منه ، فاستحسنه ، وبلغ عليا أن مصقلة أعتق الأسرى ، ولم يسألهم أن يعينوه بشيء ، فقال : ما أظن مصقلة إلا قد تحمل حمالة سترونه عن قريب منها مبلدا . وكتب إليه يطلب منه المال أو يحضر عنده ، فحضر عنده وحمل من المال مائتي ألف .
قال ذهل بن الحارث : فاستدعاني ليلة فطعمنا ، ثم قال : إن أمير المؤمنين يسألني هذا المال ، ولا أقدر عليه . فقلت : والله لو شئت ما مضت جمعة حتى تحمله . فقال : والله ما كنت لأحملها قومي ، أما والله لو كان ابن هند ما طالبني بها ، ولو كان ابن عفان لوهبها لي ، ألم تره أطعم كل سنة من خراج الأشعث بن قيس أذربيجان مائة ألف ؟ قال : [ ص: 720 ] فقلت : إن هذا لا يرى ذلك الرأي ولا يترك منها شيئا . فهرب مصقلة من ليلته فلحق بمعاوية ، وبلغ عليا ذلك فقال : ما له ترحه الله ، فعل فعل السيد ، وفر فرار العبد ، وخان خيانة الفاجر ! أما إنه لو أقام فعجز ما زدنا على حبسه ، فإن وجدنا له شيئا أخذناه وإلا تركناه .
ثم سار علي إلى داره فهدمها ، وأجاز عتق السبي وقال : أعتقهم مبتاعهم وصارت أثمانهم دينا على معتقهم .
وكان أخوه نعيم بن هبيرة شيعة لعلي ، فكتب إليه مصقلة من الشام مع رجل من نصارى تغلب اسمه حلوان يقول له : إن معاوية قد وعدك الإمارة والكرامة ، فأقبل ساعة يلقاك رسولي ، والسلام . فأخذه مالك بن كعب الأرحبي فسرحه إلى علي ، فقطع يده ، فمات ، وكتب نعيم إلى مصقلة يقول :
لا ترمين هداك الله معترضا بالظن منك فما بالي وحلوانا ذاك الحريص على ما نال من طمع
وهو البعيد فلا يحزنك إن خانا ماذا أردت إلى إرساله سفها
ترجو سقاط امرئ لم يلف وسنانا قد كنت في منظر عن ذا ومستمع
تحمي العراق وتدعى خير شيبانا حتى تقحمت أمرا كنت تكرهه
للراكبين له سرا وإعلانا عرضته لعلي إنه أسد
يمشي العرضنة من آساد خفانا لو كنت أديت مال القوم مصطبرا
للحق أحييت أحيانا وموتانا لكن لحقت بأهل الشام ملتمسا
فضل ابن هند وذاك الرأي أشجانا فاليوم تقرع سن العجز من ندم
ماذا تقول وقد كان الذي كانا فاليوم تبغضك الأحياء قاطبة
لم يرفع الله بالبغضاء إنسانا
فلما وقع الكتاب إليه علم أنه قد هلك ، وأتاه التغلبيون فطلبوا منه دية [ ص: 721 ] صاحبهم ، فوداه لهم .
وقال بعض الشعراء في بني ناجية :
سما لكم بالخيل قودا عوابسا أخو ثقة ما يبرح الدهر غازيا
فصبحكم في رجله وخيوله بضرب ترى منه المدجج هاويا
فأصبحتم من بعد كبر ونخوة عبيد العصا لا تمنعون الذراريا
وقال مصقلة بن هبيرة :
لعمري لئن عاب أهل العراق علي انتعاش بني ناجيه لأعظم من عتقهم رقهم وكفي بعتقهم ماليه
وزايدت فيهم لإطلاقهم وغاليت إن العلى غاليه